#مقالات رأى

حالة فريدة وجيل من العمالقة

 

د. رامي عطا صديق

مصر التي في خاطري، ومصر تتحدث عن نفسها، أصبح عندي الآن بندقية، راجعين بقوة السلاح، والله زمان يا سلاحي، يا ليلة العيد، ألف ليلة وليلة، أمل حياتي، إنت عمري، الحب كله، القلب يعشق كل جميل، حيرت قلبي معاك، هذه ليلتي، هو صحيح الهوى غلاب، وغيرها العشرات من العناوين، هي مجموعة أغنيات وقصائد شعرية شدت بها الفنانة الكبيرة أم كلثوم، التي وُلدت في قرية طماي الزهايره بمركز السنبلاوين محافظة الدقهلية في 31 ديسمبر 1898م، ومنذ السنوات الأولى لطفولتها احترفت الإنشاد الديني على يد والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، فكانت تغني في الموالد والأفراح، في بلدتها الصغيرة وفي القرى والمدن المجاورة، ثم شاء القدر وجاءت الفرصة لأن تنتقل إلى القاهرة، حيث تعاملت مع مجموعة من أبرز الشعراء ومؤلفي الأغنيات، منهم أحمد رامي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي وبيرم التونسي وصالح جودت وكامل الشناوي ومرسي جميل عزيز ونزار قباني، بالإضافة إلى عدد كبير من أمهر المُلحنين، يتقدمهم أبو العلا محمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي وزكريا أحمد وسيد مكاوي وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.

تنوعت أعمالها بين أغنيات عاطفية وأخرى دينية وثالثة وطنية، وقدمت بعض الأفلام للسينما المصرية، هي أفلام: وداد (1936)، شبابي (1937م)، دنانير (1940م)، عايدة (1942م)، سلامة (1945م)، فاطمة (1947م)، ثم اعتزلت التمثيل السينمائي، وإن غنت في فيلم رابعة العدوية (1963م)، وهكذا ذاع صيتها في مصر والعالم العربي، وفي الخارج أيضًا، فاستحقت أن تفوز بلقب “كوكب الشرق”. وكان لأم كلثوم دور بارز في تأسيس نقابة المهن الموسيقية في نوفمبر 1942م، واُنتخبت نقيبة لسبع دورات مُتتالية.

أكدت أم كلثوم أن الفن يستطيع أن يقوم بدور مُهم في وقت الحروب والأزمات، وأن دور الفنان”ة” لا يقل عن دور أي مسؤول أو أي مواطن صاحب مهنة، فكان لها دور وطني من خلال الفن عقب هزيمة يونيو 1967م وحتى تحقيق النصر في أكتوبر 1973م، حيث قدمت أغان وطنية تجاوبت فيها مع مشاعر المواطنين، وقامت بجمع الأموال لصالح تسليح الجيش المصري، وهي كثيرًا ما ساهمت بالمال وتبرعت للوطن بأجر بعض حفلاتها داخل مصر وخارجها، ومن ذلك حفلتها الشهيرة على مسرح الأولمبيا بباريس في نوفمبر 1967م، وكان “للست أم كلثوم” شعبية كبيرة حتى أن الآلاف من المصريين وأبناء الجنسيات العربية كانوا يهتمون بمتابعة حفلتها الشهرية يوم الخميس الأول من كل شهر، سواء بحضور الحفلة أو سماعها عبر الإذاعة والتليفزيون. وفي واحدة من حفلاتها هتف رجل بصوت عال “عظمة على عظمة على عظمة يا ست”، وفي حفلة أخرى أراد معجب أن يُقبّل قدميها!!

وفي الثالث من فبراير عام 1975م رحلت أم كلثوم عن عمر يناهز “77” عامًا، إلا أنها لم ترحل عن مصر والعالم بفنها وأغانيها الخالدة، حيث تحل هذا العام الذكرى الخمسين لوفاتها (1975-2025م). وليس من باب المبالغة القول بإن أم كلثوم تُمثل حالة فنية، مُتميزة وفريدة، حيث اتحد جمال الصوت وقوته، مع كلمات راقية ومُعبّرة، وجودة اللحن والتوزيع الموسيقي، ومن هنا لم يكن غريبًا أن تستمر أغانيها حية إلى اليوم، على الرغم من رحيلها بخمسين عامًا، حيث إن لأم كلثوم جمهورًا كبيرًا ممن لم يعاصرها، وكثيرًا ما تجولت خلال السنوات الماضية في شوارع بيروت وعمان وحلب وتونس والمغرب..، وجلست على مقاهيها، فكنت أسمع صوت أم كلثوم يجلجل ويشدو، وجمهور متنوع بين شباب وكبار يسمع ويتمتع بصوتها.

وليس غريبًا أيضًا أن يكتب الصحفيون والكُتّاب عنها عشرات المقالات والمؤلفات، في حياتها وبعد وفاتها، وإنتاج مسلسل وفيلم عنها عام 1999م لتؤكد أم كلثوم أنها قوة مصرية ناعمة وزكية، ساهمت بنصيبها في ارتفاع شأن الفن المصري ووصوله لكثيرين حول العالم. ولعل المسيرة الفنية لحياتها تعكس كيف أن للفن دورًا كبيرًا في بناء وعي المواطنين وتشكيل الهوية وترسيخ منظومة القيم الإيجابية، خاصة وأن جمهورها يتميز بالتنوع، من الأغنياء والبسطاء، من الرجال والنساء، من القاهرة وباقي المحافظات، فلاحين وعمال وموظفين وسياسيين ومثقفين وأطباء ومهندسين وصحفيين وغيرهم.

لعل حياة أم كلثوم ومسيرتها الفنية تكون هُدى ونبراسًا وقدوة للفنانين الحاليين، وبالأخص الشباب منهم، ولا أقصد هنا أن نستنسخ من أم كلثوم، فلكل فنان مسيرته الخاصة وإبداعه الفني المُميز، لكني أقصد الفن الراقي الذي يبني الشخصية السوية، التي تنتمي للوطن وتحب الحياة وكل الناس، وتتحلى بقيم العمل والعطاء والتسامح والتعاون وغيرها.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *