#مقالات رأى

دراما في الحي الشعبي

بقلم/ محمد عبدالله

عشت حياتي في حي شبرا بأقسامه -روض الفرج، شبرا مصر، شبرا الخيمة- منذ 56 عامًا، في بيت جدي القديم في روض الفرج، وتفتحت عيني على كمٍ كبيرٍ من القيم والرضا والقناعة التي ترسخت في الدم.

منذ الميلاد في روض الفرج، أرضعتني مسيحية اسمها “قناعة”، وكان جدي “شيخ جامع”، ولم يعترض، وكبرت على مساحة واسعة من التسامح، فقد كان هناك قسيسًا –صديق جدي- يأتي كل أسبوعٍ ليتجاذبا الحديث، والنكات، والطعام في رحابة نفس لم أشهد مثلها، وعندما شب حريق في الكنيسة التي كانت في شارع جدي، كان يصطحبني يوميًا لنحمل الطوب والأسمنت والخشب لإصلاح ما خربته النيران، مثلما فعل في بناء مسجد ” منبر الإسلام في شارع جسر البحر.

في بيت جدي القديم كانت “الحيطان” لها رائحة لا أنساها، رغم مرور عشرات السنوات، وكانت القيم والأصول هي عنوان المنطقة الشعبية، كبرنا على مفهوم العيب، (عيب صوتك يرتفع والكبير بيتكلم.. عيب تقعد إلا لما الكبير يقولك اقعد.. عيب تبص في وش أي ست بتكلمك أو تطلب منك حاجة.. لو صادفت المدرس بتاعك ماشي عيب تمشي، تقف لحد ما يعدي.. عيب تكلم الكبير من غير ما تقوله حضرتك.. لو هتطلب حاجة قول من فضلك.. لو سمحت.. وقول شكرًا جزيلًا لما تشتري حاجة من حد.. عيب بنت منطقتك تتعاكس.. وعيب تبص لأي بنت في الشارع هي في حماك لحد ما تدخل بيتها.. عيب تقعد في المواصلات وفيه كبير واقف)، ونحتاج إلى مساحاتٍ كبيرة لسرد هذا الكم الكبير من القيم والمبادئ.

ومع كل هذه الأصول والقيم، كبرنا على مُساعدة الضعيف، وتعلمنا في الحي الشعبي قيم الحلال والحرام، وعندما انتقلنا إلى حي شبرا الخيمة في بداية السبعينيات، كانت جارتنا وأمي الثانية “ماري” -رحمهما الله- هي القسم الثاني من العائلة، كانت بنتاها مثل شقيقتاي، وكنا يوميًا نتبادل الطعام، وكنت أذهب معهم إلى الكنيسة لحمايتهم من أي مُضايقة، وهناك تعلمت جزءًا كبيرًا من الثقافة المسيحية.

وفي هذه البيئة التي كان فيها الصالح والطالح، كانت الأخلاق والأصول هي الحاكمة لأي مشكلة، حتى اللصوص كان لديهم “أصول”، فقد تعرض منزلنا للسرقة، وعرف أبي السارق، وذهب إلى عائلته التي كانت من المسجلين وقتها، كان بمفرده، لكنه قال لهم “عيب نعض في بعض دي مش أصول”، وطلب قعدة عرب، وقد تم ذلك واعترفوا بالخطأ، وتم إعادة المسروقات، ولمزيد من الدهشة فقد شب حريق في بيتنا ونفاجأ بأن من احتشد لإطفاءها هم الذين سرقوا البيت سابقًا لأن “دي الأصول”.

وفي هذا الحي الشعبي عرفنا “الأصول”، وعززه الإعلام مُتمثلًا في الإذاعة وقتها، التي كانت تبث برامجًا في غاية الروعة؛ مثل: “عائلة مرزوق أفندي”، في البرنامج التوعوي المُتميز إلى ربات البيوت، والمسلسلات، والبرامج الغنائية التي كانت تبث القيم والأصول “عوف الأصيل”، و”قسم”، و”عواد باع أرضه”.. وغيرها من عشرات البرامج والمسلسلات التي كانت تُرسخ كل ما هو أخلاقي.

ومع شراء أبي للتلفزيون، عشقت فيلم “العزيمة” بطولة حسين صدقي، فاطمة رشدي، أنور وجدي، وزكي رستم، فقبل “العزيمة” كانت السينما تدور في القصور، وكانت المرة الأولى في الفيلم التي تصوَّر حارة، والمرة الأولى التي نرى فيها على الشاشة المزيّن، والحانوتي، والجزار، وبنت البلد، والحياة الخلفية الخفية للقاهرة، وتم تصنيف الفيلم كأفضل فيلم مصري لأنه الأول في مجال السينما الواقعية الذي نقل حالة الشارع كما هي دون تجميل، ومن هذا الفيلم عرفت معنى العصامية، والكفاح، وشرف العمل.

وكانت الحارة الشعبية تضم كافة نماذج البشر، وكانت الدراما تُحفز على الشرف، وعندما أرادت نقل الواقع، نقلت الواقع الشريف.

يا سادة المناطق الشعبية ليست ما تعرضوه من بلطجة، ومخدرات، وتلك الأفعال المشينة، الأحياء الشعبية فيها نساء مَعيلات، وقصص كفاح، وشهداء في سبيل الوطن، فاستقيموا يرحمكم الله.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *