#ثقافة وفن

“بيت السناري”.. كنزٌ تاريخيٌ يروي قصص القاهرة القديمة

بقلم: د. سحر حسن أحمد

دار الكتب المصرية

في قلب العاصمة المصرية، وتحديدًا في منطقة السيدة زينب، يقع أحد أروع معالم القاهرة التاريخية، وهو “بيت السناري”، الذي يُمثل نافذةً على تاريخ مصر وثقافتها، وملتقًى للفنون والعلوم عبر العصور، وفي هذا المقال نستعرض حكاية البيت، التي تمتد لأكثر من قرنين؛ حيث يمتزج التاريخ بالثقافة في أروقة هذا المكان الفريد، وتتعانق الأزقة الضيقة مع عبق التاريخ، ويقف بيت السناري شامخًا كحكايةٍ محفورةٍ على جدران الزمن، هنا عند أعتاب هذا المنزل العريق، يتلاشى ضجيج الحاضر؛ لتُفتح أبواب الماضي على مصراعيها؛ مُستعرضةً فصولًا من حكايات لا تنتهي.

هذا البيت ليس مجرد بناء حجري عتيق؛ بل هو شاهدٌ على أسرار حقبةٍ خالدةٍ؛ حيث امتزجت فيه عبقرية العمارة الإسلامية بجلال الحضور الإنساني، فبين أروقته سكنت الأرواح، ونطقت الجدران برنين ضحكات ووشوشات علماء الحملة الفرنسية، بينما ظل الفناء الداخلي يحتضن همسات الريح، كأنها رسائلًا من عصورٍ بعيدة؛ حيث تتلاقى العلوم والفنون، وتتمازج ذكريات الحملة الفرنسية مع أحلام الحاضر؛ ليظل بيت السناري رمزًا للحكايات التي لا يطويها النسيان، ويظل صرحًا للثقافة والفنون، وقبلةً لكل قاصٍ ودانٍ يرغب في أن ينهل من هذا الصرح العظيم.

نشأة بيت السناري وتاريخه

بُني بيت السناري عام 1794م، على يد “إبراهيم كتخدا السناري”، وهو تاجرٌ ثري من السودان، عاش في مصر خلال القرن الثامن عشر، واختار منطقة قريبة من مسجد السيدة زينب؛ ليبني هذا البيت الفخم، الذي يجمع بين العمارة الإسلامية العثمانية، والطراز المعماري المملوكي؛ ليُصبح واحدًا من أجمل بيوت القاهرة التاريخية، وقد عُرف بـ “السناري” نسبةً لقدومه من مدينة “سنار” بالسودان، ويقع هذا المنزل في حي الناصرية، بالسيدة زينب، في نهاية حارة غير نافذةٍـ تعرف حاليًا بـ “حارة منج“، نسبةً إلى أحد علماء الحملة الفرنسية، الذين أقاموا بهذا المنزل عند احتلالهم مصر.

استولت الحملة الفرنسية على البيت، خلال فترة احتلالها لمصر(1798-1801م)، وتمت مصادرته؛ ليُصبح مقرًا لبعض العلماء الفرنسيين المشاركين في مشروع  كتاب “وصف مصر”، وخلال هذه الفترة، شهد نشاطًا علميًا وثقافيًا كبيرًا؛ حيث عُقدت فيه اللقاءات، ووضعت فيه الأسس لأحد أهم الوثائق التي وثقت الحياة المصرية آنذاك، وفي عام 1916م، قدم “جاياردون بك” طلبًا لأعضاء لجنة حفظ الآثار، يرجو فيه السماح له باستئجاره كي يجعله متحفًا؛ ليعرض فيه مجموعته الخاصة التي تتحدث عن الحملة الفرنسية على مصر وسوريا، وتمت الموافقة على هذا الطلب، وفي المدة من عام 1917-1926م، أقام “جاياردون بك” متحفًا باسم “بونابرت”، وأُغلق البيت بعد وفاته، ثم أُخلي في سنة 1933م.

وفي فترة ستينيات القرن المنصرم، استُخدِم البيت كمركزٍ للحرف الأثرية التابع لهيئة الآثار، وكل هذا أدى إلى إلحاق أضرارٍ بالغة بالمنزل، وأضاف عليها زلزال 1992م الكثير، حتى بدأ المجلس الأعلى للآثار، بالتعاون مع البعثة الفرنسية، بالقيام بأعمال ترميم المنزل في عام 1996م، وبعد ثورة 25 يناير 2011م، وحدوث حريق للمجمع العلمي، تم نقل محتوياته إلى البيت في عام 2012 م.

العمارة والتصميم

يعد “بيت السناري” تحفةً معماريةً تعكس جماليات الفن الإسلامي في القاهرة؛ حيث يتألف من طابقين رئيسيين، ويضم العديد من الغرف الفسيحة، والقاعات المزخرفة، ويتميز البناء باستخدام الأحجار الضخمة، والأخشاب الفاخرة، التي تعكس براعة الصنعة في ذلك العصر.

وتتميز واجهة البيت بنقوشٍ وزخارفٍ هندسية بديعة، إلى جانب الشبابيك الخشبية المزخرفة، التي تعكس الطراز الإسلامي، وعند الدخول تستقبل الزائر ساحةً فناءً داخلية واسعة، مُحاطة بالأروقة، مما يتيح التهوية الطبيعية والإضاءة المُميزة.

كما يضم البيت قاعات ذات أسقف مرتفعة، ونوافذ ملونة، بالإضافة إلى “المشربيات” التي كانت تمنح النساء خصوصية أثناء النظر إلى الخارج، واللافت أيضًا هو وجود قاعات متعددة الاستخدامات؛ منها: قاعات الاستقبال، وغرف المعيشة، بالإضافة إلى أماكن خاصة تُستخدم كمساحات للدراسة والكتابة.

بيت السناري والحياة الثقافية والعلمية

لعب “بيت السناري” دورًا محوريًا في إثراء الحياة الثقافية والعلمية، سواء خلال فترة الحملة الفرنسية أو بعدها أثناء وجود الفرنسيين؛ حيث استخدمه علماء الحملة كمقرٍ لأعمالهم البحثية، والدراسات التي وثقت مظاهر الحياة المصرية، مما جعله شاهدًا على واحدة من أهم الحقب التاريخية، وبعد انتهاء الحملة الفرنسية، أصبح البيت مركزًا للأنشطة الثقافية والاجتماعية في القاهرة..

البيت في العصر الحديث

وفي القرن العشرين، برزت الحاجة إلى الحفاظ على المعالم التاريخية في القاهرة، ومن بينها بيت السناري، وخضع لعملية ترميم شاملة في الثمانينيات بجهود من وزارة الثقافة المصرية وبعض المؤسسات الدولية، وفي عام 2010م، أعيد افتتاح البيت كمركزٍ ثقافيٍ يتبع مكتبة الإسكندرية؛ ليصبح منارةً ثقافيةً جديدةً، تهدف إلى تعزيز الفنون والعلوم، وذلك بعد طلب من الدكتور إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الإسكندرية، وبعد موافقة اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية، تم تسليم البيت للمكتبة التي بدأت في تجهيزه بهدف تحويله إلى منفذٍ ثقافيٍ مهمٍ؛ لنشر الوعي الثقافي، والفني، والعلمي في المناطق المحيطة به؛ ولتشجيع الشباب على الانخراط في الحياة العامة، وذلك عن طريق إقامة العديد من الفعاليات الثقافية والفنية؛ مثل: المعارض، والندوات، والمنتديات، وورش العمل، والعروض المسرحية، كما تعقد به أيضًا حلقات نقاشية علمية حول مستقبل العلوم والمعرفة على عدة مستويات، وهذا استكمالًا للدور الذي أخذته مكتبة الإسكندرية على عاتقها من إحياءٍ للدور القديم لبيت السناري؛ ليصبح منبرًا للعلوم والثقافة والفنون.

بيت السناري كمركزٍ ثقافيٍ

أصبح بيت السناري اليوم، مركزًا للفنون والثقافة، حيث يستضيف العديد من الأنشطة والفعاليات التي تعكس روح مصر الثقافية؛ والتي منها:

  1. ورش العمل الفنية: لـ الرسم، والنحت، والحرف اليدوية التقليدية؛ مثل: صناعة الفخار، والنقش على الخشب.
  2. الندوات والمحاضرات: تُعقد به العديد من المحاضرات العلمية والثقافية في مجالات متعددة، مما يجعله ملتقًى للفكر والإبداع.
  3. المعارض الفنية: يعرض البيت أعمال الفنانين المحليين والدوليين، مما يُسهم في إثراء المشهد الفني المصري.
  4. إحياء التراث: تُقام به فعاليات تهدف إلى الحفاظ على التراث المصري؛ مثل: عروض الموسيقى التقليدية، ورقصات الفلكلور.

ولا يزال بيت السناري يُلهم الكثير من الفنانين، والمؤرخين، والباحثين، بفضل أجوائه التاريخية، وسحره الفريد، كما أصبح مكانًا مفضلًا للتصوير السينمائي والتلفزيوني؛ حيث يُستخدم كخلفية لتصوير مشاهدٍ تعكس عبق التاريخ المصري، ومثل كل المعالم التاريخية، يحمل “بيت السناري” بين جدرانه العديد من الحكايات والأسرار، وتروي بعض الأساطير أنه شهد لقاءات سرية أثناء الحملة الفرنسية، وأخرى تتحدث عن كنوز مدفونة في أرجائه، ورغم أنها مجرد قصصٌ؛ إلا أنها تضفي على البيت مزيدًا من الغموض والجاذبية.

وختامًا يُعد “بيت السناري” واحدًا من أعظم كنوز القاهرة التاريخية؛ إذ يُجسد روعة العمارة الإسلامية وعمق التاريخ المصري، من خلال التحولات التي شهدها، من بيت شخصي، إلى مركزٍ علميٍ خلال الحملة الفرنسية، ومن ثم إلى معلمٍ ثقافيٍ حديثٍ، يروي قصة غنية تمزج بين الماضي والحاضر، وهكذا، يظل صفحة مفتوحة من كتاب الزمن، يروي لكل زائرٍ قصة مصر التي لا تخبو ألوانها رغم عواصف الدهر، وعند ختام جولتك بين أروقته، لا يُغادرك شعور بأنك تركت جزءًا منك بين جدرانه، ربما دهشة عينك التي تأملت الزخارف، أو همسة قلبك التي تناغمت مع صمت المكان، فهو ليس مجرد بيتًا؛ بل قصيدةً نسجتها الأحجار، ورسمتها الأضواء والظلال، إنه شهادةٌ حيةٌ على عظمة الماضي وحنين الحاضر، مكانٌ يفيض بالروح كما يفيض بالتاريخ، فهناك بين طيات الفناء الهادئ، وغرفه التي تفيض بعبق الذكرى، يُدرك الزائر أن بيت السناري ليس مجرد أثر؛ بل قلبًا نابضًا يجمع بين أمجاد الأمس وأحلام الغد.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *