العقل طاقة جبارة

بقلم: سامي محمد المرسي
وسط عالم يموج بالتحديات ويتسارع في تغيّراته، تتضاءل قيمة المجتمعات التي تكتفي بالجمود، وتهبط معها فرص النهضة والبقاء. ليست الثروات الطبيعية ولا القوة العسكرية هي التي تصنع أمجاد الأمم، بل العقول التي تُفكر وتبتكر وتُعيد صياغة الواقع. إننا بحاجة إلى عقول حية نابضة، تُحطم قيود التقليد، وتفتح نوافذ جديدة للإبداع والتجديد.
العقل ليس مجرد أداة للحفظ أو التلقين، بل هو طاقة جبارة إذا استُغلت بالشكل الصحيح، فإنه يغير وجه العالم. إن الفرق بين العقل المقلد والعقل المبدع كالفرق بين من يسير في ظل الآخرين، ومن يشق طريقًا لم يُطرق من قبل. تقف العقول المبدعة أمام المجهول بلا خوف، تُسائل كل شيء، وتحاول أن ترى ما لا يُرى بالعين المجردة.
الإبداع هو القاعدة الذهبية التي بُنيت عليها الحضارات. دعونا نتأمل كيف نشأت العصور الذهبية للبشرية: عصر النهضة الأوروبية، الحضارة الإسلامية، وحتى الثورة الصناعية. في كل تلك المحطات، كانت العقول المبدعة هي التي أشعلت الشرارة. لم تكتفِ هذه العقول بتلقي المعارف القديمة، بل درستها، وفككتها، وأعادت بناءها بطرق مبتكرة.
لكن لنكن واضحين: الإبداع لا يظهر من العدم. إنه نتاج رؤية عميقة، وتجارب متراكمة، وأحيانًا معاناة شخصية. إنه ثمرة عقل رفض أن يستسلم لما هو موجود، وسعى دائمًا لما هو أفضل.
التعليم هو أحد المفاتيح الأساسية. لكن التعليم الذي نحتاجه ليس ذلك القائم على الحفظ والاستظهار، بل التعليم الذي يزرع في الإنسان حب التساؤل. لماذا السماء زرقاء؟ لماذا لا يمكننا الطيران؟ هذه الأسئلة الصغيرة التي يطرحها الأطفال قد تكون مفتاحًا لاختراعات عظيمة إذا ما شُجعت.
البيئة تلعب دورًا محوريًا. المجتمعات التي تقمع الأفكار الجديدة وتُصنفها على أنها تمرد أو خروج عن المألوف، هي مجتمعات تحكم على نفسها بالتخلف. أما تلك التي تُشجع التجريب وتحترم التنوع الفكري، فهي التي تُطلق طاقات الإبداع من عقالها.
تخيل معي مجتمعًا يعتمد على التقليد فقط. مجتمع يحفظ أفراده ما كُتب دون أن يُضيفوا إليه. الزمن يمر، والعالم من حولهم يتغير، وهم ما زالوا واقفين في مكانهم. يشبهون ساعة متوقفة، يشير عقربها إلى وقت مضى وانتهى. هؤلاء سيُصبحون حتمًا عبئًا على غيرهم، عالةً على العالم، لا قيمة لهم سوى في صفحات التاريخ.
أما المجتمع الذي يزرع في أفراده حب الإبداع، فهو أشبه بشجرة مثمرة. كل فرع فيها ينبت ثمرة جديدة. هذا المجتمع لا يخشى التغيير، بل يصنعه. لا يخشى الأسئلة، بل يبحث عن إجاباتها. هؤلاء هم الذين يتركون بصمتهم على صفحات الحضارة، لأنهم فهموا أن الركود موت، والإبداع حياة.
الغاية من هذا الطرح هي تحريض العقول على التفكير النقدي والبحث عن الجديد. نحن بحاجة إلى ثقافة تُقدس الإبداع، ليس كشعار، بل كنهج حياة. يجب أن ندرك أن العقول المُبدعة لا تأتي من فراغ، وأن علينا بناء منظومات تُحفز التفكير الحر والتجربة المتجددة.
كما أن الماء الراكد يتعفن، فإن العقل الراكد يضمر. الإبداع ليس اختيارًا بل ضرورة. إنه مفتاح النجاة في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة. إذا أردنا أن نكون مؤثرين، فلا بد أن نُدرك أن العقول المبدعة هي الثروة الحقيقية لأي أمة.
يا صديقي، تأمل نفسك كعقل، ككيان يبحث عن المعنى والهدف. هل تُريد أن تكون مجرد مستهلك لأفكار الآخرين؟ أم تُريد أن تكون صانعًا للأفكار، مبدعًا يُعيد تشكيل الواقع؟ إن خيارك هذا لن يُحدد مستقبلك فقط، بل مستقبل أمتك بأسرها.
الأمم العظيمة لا تُبنى على العقول الراكدة، بل على تلك العقول التي تُضيء دروب المجهول. كن أنت من يضيء الطريق، ولا تخشَ أن تكون مختلفًا. فالإبداع ليس مجرد موهبة تُولد مع البعض، بل هو خيار نعيشه كل يوم. اختر الإبداع، لأن الركود ليس إلا موتًا بطيئًا.