عبقرية قلم نجيب محفوظ

بقلم : سامي المرسي كيوان
في كل حقبة زمنية يبرز كاتب ما، يكتب بمداد الروح لا الحبر، يسرد الحكايات كما لو أنه يعيد تركيب الزمان والمكان، ويمنحنا مفاتيح لفهم الواقع والحلم معًا. نجيب محفوظ لم يكن مجرد كاتب روائي، بل كان أشبه بعدسة كاميرا تتحرك في أحياء القاهرة، تلتقط ما هو خفيّ قبل الظاهر، وتمنح كل مشهد دلالته وكل شخصية عمقها. لم يقتصر دوره على تصوير الواقع، بل كان يعيد إنتاجه بفلسفةٍ فريدة جعلت منه مدرسةً أدبية قائمة بذاتها.
منذ بداياته الأولى، بدا نجيب محفوظ مختلفًا. لم تكن الرواية بالنسبة له وسيلةً للتسلية أو مجرد حكاية تُروى، بل كانت أداةً لفهم الإنسان، وتحليل المجتمع، ومساءلة التاريخ، وربما مجابهة الوجود ذاته. كان يرى في الأدب أداةً تعرّي الإنسان وتضعه أمام نفسه، بكل ما فيه من خير وشر، قوة وضعف، عقل وهوى. لذا لم يكن غريبًا أن تتسم كتاباته بالغوص العميق، وأن تتنوع موضوعاتها بين التأملات الفلسفية والأسئلة الوجودية، والمجابهات الواقعية مع السلطة والدين والتقاليد.
في كل عملٍ له، نلحظ تلك العدسة الدقيقة، التي لا تترك تفصيله تمر دون تمحيص، ولا تكتفي بما هو ظاهر، بل تبحث عن الطبقات العميقة في النفس البشرية. ففي روايته الخالدة “الثلاثية”، لم يكتفِ محفوظ برسم شخصيات حيّة، بل قدّم لنا سيرة وطن من خلال سيرة أسرة. جعلنا نحسّ بنبض شوارع الحسين، نسمع صدى الأذان في الفجر، ونرى دموع العاشق وخوف الأب وقلق الفتى. كل هذا دون أن يعظ أو يُلقن، بل كتب بعين متأملة، وقلبٍ حيّ، وذهن ناقد.
الدهشة التي تتركها أعماله ليست نابعة من تعقيد لغوي أو استعراض بلاغي، بل من تلك البساطة الفاتنة التي تخفي وراءها عمقًا مذهلًا. فكما تفعل الكاميرا الذكية، يلتقط محفوظ اللحظة العابرة ويمنحها الخلود، يصور مشهدًا من الحياة اليومية ويكشف من خلاله عن أزمة وجودية أو اجتماعية. تلك هي عبقرية نجيب محفوظ التي أذهلت العالم، ودفعت بالأدب العربي لأن يُتَرجم ويُقرأ في كل اللغات.
وقد كان من الطبيعي أن يتعرض نجيب محفوظ للهجوم من بعض الأصوات، فكل من يعلو بقيمته وبفكره، لا بد أن يتعرض لحجارة الحاسدين. الأقزام، بطبعهم، يكرهون القمم. يحاولون النيل منها، لا لأن فيها ما يستحق الذم، بل لأنهم يعجزون عن الارتقاء إليها. لقد تطاول عليه بعضهم حين تناول المحرمات السياسية والدينية، وظنّوا أنه تجاوز حدوده، بينما كان هو يطرح أسئلةً لطالما راودت العقول الحيّة، ويكتب بصدق لا يعرف المواربة. كان يملك شجاعة الكاتب الذي لا يخاف من رأيه، ولا يكتب إرضاءً لأحد.
لم تكن جائزة نوبل التي نالها سوى شهادة عالمية على موهبته التي لا تنكر. لكنها لم تُضف شيئًا إلى قيمته في نظر محبيه، فقد كان قبلها وبعدها نجيب محفوظ، العبقري الذي كتب بضمير مصر ووجدانها. لم يتلون بلون السلطة، ولم يساوم على قناعاته، بل ظل كما هو، هادئًا في حياته، عاصفًا في كتابته، كالنهر الذي يبدو ساكنًا لكنه يحمل في أعماقه تيارًا قويًا لا يُقاوم.
كانت رؤيته للمجتمع رؤية ناقدة لكنها محبة. لم يكن كارِهًا لتقاليده، بل كان يرى عيوبها ويطمح إلى تجاوزها. لم يكن ضد الدين، بل ضد استغلاله وتشويهه. لم يكن ضد السلطة بحد ذاتها، بل ضد فسادها. لذلك كانت كتاباته متوازنة، تحمل الألم دون أن تسقط في اليأس، وتنشد الإصلاح دون أن تلوّح بالسيف.
إن المغزى من سيرة نجيب محفوظ لا يتوقف عند حدود الأدب، بل يمتد إلى درس في الكفاح، في الصبر، في أن تؤمن بموهبتك ولو تأخر التقدير. لقد كتب سنوات طويلة قبل أن يُقرأ كما يستحق، وصبر على التجاهل والإقصاء، حتى صار علمًا من أعلام الأدب العالمي. لقد علّمنا أن القمة لا تُصنع بالصراخ، بل بالعمل الصامت والمثابر.
وفي النهاية، تبقى أعمال نجيب محفوظ حاضرة بيننا، لا كذكرى باهتة، بل كمرآة نرى فيها أنفسنا ومجتمعاتنا، نحاور من خلالها أفكارنا وتناقضاتنا. كل من قرأ له، خرج منه بشيء جديد: رؤية أعمق، أو شعور دفين، أو سؤال محيّر. ذلك لأنه لم يكن يكتب لنا لنتسلّى، بل لنتغيّر.
إن نجيب محفوظ لا يموت، لأنه لم يكن مجرد جسد، بل فكرة. وكان صوته هو صوت مصر، بكل ما فيها من جمال ومعاناة، أمل وخيبة، حكمة وخرافة. وسيظل قلمه حيًا ما بقيت الكلمات وسيلة للبقاء.