#ثقافة وفن

عصام بصيلة: حرفة النقد وبراعة الانتقاء

سامي المرسي كيوان

كان الزمن بالنسبة له كقطار سريع لا يتوقف، لكنه لم يكن يهاب الرحيل المبكر، فقد كان يدرك أن الأثر الذي يتركه الإنسان هو الذي يحدد خلوده في ذاكرة الزمن. لم يكن مجرد صحفي يسجل الأحداث، بل كان صاحب رؤية، ووعي نافذ، وقلم رشيق يشبه السيف في دقته، والسراج في ضيائه.

ولد في زمن يعج بالتحديات، لكنه لم يكن ممن يخشون المواجهة. كان يدرك أن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل رسالة، وكان مداده هو الحقيقة. كان يكتب بقلبه قبل قلمه، وعندما تخط أنامله الكلمات، كانت تعكس روحه الحرة وعقله المتقد. لم يكن صحفيًا يبحث عن المجد الشخصي، بل عن الحقيقة التي كان يعتبرها أثمن من الذهب.

الرحلة القصيرة والإنجاز العميق : لم يمتد به العمر طويلاً، لكن الزمن لم يكن مقياسًا لعطائه. كان كالشهاب الذي يضيء لحظات الليل ثم يختفي، لكنه يترك أثرًا خالدًا. استطاع خلال رحلته القصيرة أن يقدم ما يعجز عنه كثيرون ممن طال بهم العمر، فقد كان فكره سابقًا لعصره، وكلماته تنبض بالحياة، وتحمل بين طياتها نورًا لكل من يقرؤها.

كتب في كل ما يمس الإنسان، من قضايا اجتماعية وسياسية، إلى هموم البسطاء وأحلام الطموحين. لم يكن مجرد ناقل أخبار، بل كان محللًا بارعًا، ينفذ إلى عمق القضايا، ويفكك تعقيداتها، ويعيد تقديمها للقارئ بوضوح شديد. كانت كتاباته تثير الفكر، وتحرك القلوب، وتدفع الناس إلى التساؤل والتأمل.

كان هدفه الأساسي أن يكون لسان حال من لا صوت لهم، أن يكشف النقاب عن الحقائق المغيبة، وأن يجعل من قلمه منارة للوعي. لم يكن يكتب بحثًا عن الشهرة، بل لأنه كان يشعر أن لديه رسالة لا بد أن تصل إلى الناس. كان يكتب ليحرر العقول من قيود الجهل، وليبني جسورًا من الفهم بين الناس والواقع الذي يعيشونه.

لم يكن حياديًا حين يتعلق الأمر بالحق والباطل، كان واضحًا في مواقفه، شجاعًا في طرحه، لا يخشى في الحق لومة لائم. وكثيرًا ما جرّ عليه ذلك متاعب، لكنه لم يتراجع، لأن القلم في يده كان أكثر من مجرد أداة، كان سلاحًا يحارب به الظلم والتزييف.

حين رحل، لم يكن مجرد فقدان شخص، بل خسارة فكر مستنير، وعقل كان يشبه السراج في عتمة الطريق. لكن الأثر الذي تركه لم يندثر، فقد بقيت كلماته تشهد على بصيرته، ومقالاته تواصل رسالتها حتى بعد غيابه. لم يكن الموت قادرًا على إسكات صوته، لأنه كان يكتب بحبر الروح، وهذا الحبر لا يجف.

ربما لم يُمنح العمر الطويل، لكنه امتلك ما هو أعمق وأثمن: القدرة على التأثير، والجرأة على قول الحق، والصدق في التعبير. لقد فهم أن قيمة الإنسان ليست بعدد السنوات التي يحياها، بل بما يزرعه من أفكار وما يتركه من نور لمن بعده.

لقد كان صحفيًا لم يكن الزمن في صفه، لكنه كان في صف الحقيقة، ولذلك سيبقى اسمه محفورًا في ذاكرة كل من قرأ له وتأثر بكلماته. كان رحيله خسارة، لكن إرثه الفكري كان انتصارًا لا يُمحى.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *