#ثقافة وفن

عبقرية سعادة  في زمن الحرب

بقلم : سامي المرسي كيوان

في أواخر عام 1972م، وبينما كانت مصر تستعد لاستعادة كرامتها المهدورة بعد هزيمة 1967م ، واجهت القيادة العسكرية مشكلة كادت أن تؤدي إلى إلغاء قرار الحرب ضد إسرائيل في أكتوبر 1973.م لم تكن المشكلة تتعلق بنقص في العتاد أو ضعف في العزيمة، بل كانت أزمة تقنية معقدة تتعلق بصواريخ الدفاع الجوي، والتي كانت العمود الفقري لحماية سماء مصر من التفوق الجوي الإسرائيلي. المشكلة أن الوقود الخاص بهذه الصواريخ انتهت صلاحيته، مما جعل تشغيلها مستحيلًا، وهو ما شكل صدمة كبرى للقيادة المصرية، وعلى رأسها الرئيس الراحل أنور السادات.

في تلك اللحظة الحرجة، برز اسم عالم مصري شاب، لم يكن من القادة العسكريين، لكنه كان يملك سلاحًا مختلفًا تمامًا: سلاح العلم والعبقرية. كان ذلك العالم هو الدكتور محمود يوسف سعادة، أستاذ الكيمياء الصناعية في المركز القومي للبحوث، والذي لم يكن يدري أن حياته ستتغير في تلك الليلة عندما طرقت باب منزله سيارة خاصة لتقله إلى اجتماع مغلق مع كبار مسؤولي الجيش.

العبقرية في مواجهة المستحيل : عندما دخل الدكتور محمود يوسف سعادة إلى الاجتماع، وجد أمامه قادة عسكريين يتحدثون بقلق بالغ عن الأزمة. تم إخباره أن الوقود الصاروخي فقد فاعليته، وأن إعادة استيراده من الاتحاد السوفيتي لم تعد خيارًا متاحًا بعد قرار السادات طرد الخبراء الروس عام 1972م. كانت مصر على بعد أربعة أشهر فقط من ساعة الصفر، وكان الحل يجب أن يكون سريعًا وفعالًا.

بهدوء الواثق، بدأ العالم المصري في دراسة مكونات الوقود المنتهي الصلاحية، وسرعان ما توصل إلى حل غير تقليدي. لم يكن من الممكن إعادة صلاحية الوقود التالف، لكن يمكن فصله إلى عناصره الأساسية وإعادة دمجه بمواد خام متوفرة محليًا لإنتاج وقود جديد بنفس الكفاءة المطلوبة. كانت هذه فكرة ثورية لم تخطر ببال أحد، لكنها تطلبت تنفيذًا دقيقًا وسريعًا.

خلال أسابيع قليلة، عمل الدكتور سعادة بالتعاون مع خبراء المعامل العسكرية على إعادة تصنيع الوقود، وتم استخلاص 45 طنًا من الوقود الصالح من المواد المتوفرة، وهو ما كان كافيًا لتشغيل صواريخ الدفاع الجوي المصرية. جاءت لحظة الاختبار الحاسمة، حيث تم تحميل أحد الصواريخ بالوقود الجديد وإطلاقه. كانت النتيجة مذهلة: الصاروخ انطلق بنجاح، مما يعني أن مصر أصبحت جاهزة لخوض الحرب. عندما وصل الخبر إلى السادات، غمرته السعادة وأدرك أن أحد أكبر العوائق قد زال، فتم تأكيد موعد الحرب دون تردد.

التحليل: العلم والتحدي الوطني :لم تكن هذه القصة مجرد نجاح علمي، بل كانت نموذجًا رائعًا لكيفية استخدام المعرفة لمواجهة التحديات الوطنية. لو لم يتوصل الدكتور سعادة إلى الحل، لكان من الممكن أن تتأجل الحرب، أو تخوضها مصر دون دفاع جوي كافٍ، مما كان سيؤدي إلى خسائر فادحة.

هذا الموقف يعكس بوضوح كيف أن الصراعات الكبرى لا تُحسم بالقوة العسكرية فقط، بل تحتاج إلى العقول المفكرة التي تستطيع تحويل الأزمة إلى فرصة. ولعل ما قام به الدكتور محمود يوسف سعادة هو درس واضح في أن العلم يمكن أن يكون في طليعة أدوات الدفاع عن الوطن، تمامًا كما تكون الدبابات والطائرات.

العلم سلاح المستقبل :إذا كان هناك درس  من هذا الموضوع ، فهو أن الأمم التي تعتمد على عقولها لا يمكن أن تُهزم. كانت حرب أكتوبر انتصارًا عسكريًا، لكنها أيضًا انتصار للعقل المصري، الذي استطاع أن يحل مشكلات معقدة بأقل الموارد وفي وقت قياسي.

كما أن قصة الدكتور سعادة يجب أن تكون دافعًا للأجيال القادمة للاهتمام بالعلم والبحث العلمي، فالعالم اليوم لا يعتمد على الجيوش وحدها، بل على التكنولوجيا والمعرفة. وما حدث في 1973م يثبت أن الدول التي تستثمر في العلم تستطيع تجاوز أعقد الأزمات، حتى في أحلك الظروف.

تكريم مستحق

رغم دوره الكبير، لم ينل الدكتور محمود يوسف سعادة الشهرة التي يستحقها، لكنه ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ مصر. توفي عام 2011م، بعد أن قدم للوطن خدمة لا تقدر بثمن، وكانت جنازته شاهدة على احترام وتقدير من عرفوا فضله.

إن أمثال هذا العالم هم الجنود المجهولون الذين يقفون وراء الانتصارات، وهم الذين يجب أن يُخلدوا في الذاكرة الوطنية، ليكونوا قدوة للأجيال القادمة. فالأوطان لا تنهض بالقوة وحدها، بل بالعلم والعقول المفكرة التي تستطيع أن تصنع المستحيل.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *