في ذكرى رحيل “فارس المحبة “… البابا شنودة الثالث “بابا العرب” حكيم الكنيسة وصوت الوطنية

كتبت: نبيلة روماني- الفرقة الأولى
في السابع عشر من مارس عام 2012، رحل عن عالمنا البابا شنودة الثالث، البطريرك الـ117 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تاركًا خلفه إرثًا من الحكمة والوطنية والمواقف الحاسمة التي جعلت منه أحد أبرز الشخصيات الدينية والسياسية في تاريخ مصر الحديث. لم يكن مجرد قائد روحي، بل كان مفكرًا ومثقفًا وصاحب رؤية، لعب دورًا محوريًّا في الحياة السياسية والاجتماعية على مدار عقود.
وُلد البابا شنودة الثالث، واسمه الحقيقي “نظير جيد روفائيل”، في 3 أغسطس 1923، بقرية سلام بمحافظة أسيوط، وفقد والدته وهو طفل صغير، وانتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث تلقى تعليمه الأوَّلي، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا)، ودرس التاريخ وتخرج عام 1947. كان منذ صغره محبًّا للعلم والأدب، فاهتم بالشعر والكتابة، حتى أصبح واحدًا من أبرز الشعراء المسيحيين في القرن العشرين، كما عمل مدرسًا للغة العربية والتاريخ، ثم اتجه للصحافة، حيث تولى تحرير مجلة “مدارس الأحد”، وهي المجلة التي كانت منبرًا لفكر التجديد في الكنيسة القبطية.
في بداية حياته المهنية، عمل مدرسًا للتاريخ ومحررًا، ثم أصبح رئيس تحرير مجلة “مدارس الأحد”. كما انضم للجيش المصري كضابط احتياط في حرب 1948. وفي عام 1954 قرر التوجه إلى دير السريان حيث ترهبن باسم “الراهب أنطونيوس السرياني” ورُسم قسًا في 1958. بدأ حياته الرهبانية في قلايته بالدير.
في عام 1962، اختاره البابا كيرلس السادس ليكون سكرتيرًا له، ورسمه أسقفًا للتعليم والمعاهد الدينية، ليقود حركة نهضة كبيرة في الكنيسة. بعد وفاة البابا كيرلس السادس في 1971، تم انتخابه البابا 117 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في 31 أكتوبر من نفس العام.
تم فى عهده سيامة أكثر من 100 أسقف وأسقف عام، وأكثر من 400 كاهن، واهتم بشكل خاص بتعليم المرأة في الكنيسة. كان له مواقف وطنية بارزة، حيث دعم حربي الاستنزاف وأكتوبر 1973، وشجع الأقباط على التبرع للمجهود الحربي،وكان له دور كبير في الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، حيث كان دائمًا يؤكد على ضرورة التعايش السلمي بين جميع أطياف الشعب المصري، ورفض دعوات تأسيس أحزاب دينية.
كان البابا شنودة يُلقب بـ “بابا العرب” بسبب مواقفه الوطنية والوحدوية بين المسلمين والمسيحيين. كان يرفع دائمًا شعار “مصر وطن يعيش فينا وليست وطنًا نعيش فيه”، داعيًا إلى تعزيز الوحدة الوطنية. كما كان أول بابا يقيم حفلات إفطار رمضانية بمشاركة كبار المسؤولين في الدولة، وهو تقليد استمر بعد رحيله.
علاقته مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كانت من أبرز مواقفه الدولية. كان البابا شنودة يشدد على ضرورة التضامن العربي والإسلامي ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكان يعارض زيارة القدس طالما كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدًا أنه سيدخل القدس فقط مع شيخ الأزهر.
عانى البابا شنودة طوال حياته من العديد من الأزمات الصحية، بما في ذلك مشاكل في الكلى وآلام الظهر، ومرض السرطان في الرئتين. رغم هذه الظروف الصعبة، ظل البابا يتحلى بصبر وقوة روحية هائلة في مواجهة معاناته. كما كان يعاني من أمراض القلب والسكر والضغط، لكنه ظل ملتزمًا بأداء واجباته الروحية بكل إخلاص. في أواخر سنواته، تعرض لكسر في الفخذ، وهو ما تطلب إجراء عملية جراحية، لكنه لم يسمح لهذه المصاعب أن تعوقه عن أداء رسالته.
توفي البابا شنودة الثالث في 17 مارس 2012 عن عمر يناهز 89 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض. ورغم معاناته الجسدية، ترك البابا شنودة إرثًا عظيمًا من الحب والإيمان والعمل الجاد من أجل وحدة الكنيسة والمجتمع المصري. كانت جنازته محط اهتمام شعبي ورسمي، حيث تم دفنه في دير الأنبا بيشوي ببرية شيهيت.
رحل البابا شنودة تاركا بصمات واضحة في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وكان دائمًا مثالًا في الثبات والإيمان، بالإضافة إلى اهتمامه الشديد بوحدة الوطن، ومحبة المسلمين والمسيحيين في مصر .