#ثقافة وفن

“سيكو سيكو”.. هل يعيد سينما الشباب إلى الصدارة ؟

بقلم: هبة جلال

الاستقبال الجماهيري الحافل الذي حظي به فيلم “سيكو سيكو” يمثل مزيجًا من عوامل متعددة ومتنوعة، تتراوح بين جاذبية الكوميديا المباشرة التي يقدمها، والشعبية الواسعة التي يتمتع بها الممثلون المشاركون فيه، وربما أيضًا ملامسة الفيلم لبعض القضايا التي تهم شريحة الشباب بشكل خاص، بالإضافة إلى الفعالية الواضحة للحملات التسويقية التي سبقت عرضه، وتلبية الفيلم لتوقعات الجمهور الباحث عن هذا النوع من الأعمال السينمائية الخفيفة.

هذا النجاح الباهر، في حقيقته وجوهره، يطرح علينا تساؤلات جوهرية وعميقة حول طبيعة الكوميديا التي يفضلها الجمهور المعاصر في وقتنا الحالي، والدور المتزايد الذي تلعبه النجومية في صناعة السينما وتأثيرها الملحوظ على تقييم الأعمال الفنية وجودتها، بالإضافة إلى مدى العمق الذي تتناوله به الأفلام التجارية قضايا المجتمع وهموم الشباب وتطلعاتهم، وأخيرًا، العلاقة المعقدة والمتشابكة بين النجاح التسويقي الهائل للفيلم وبين قيمته الفنية والاجتماعية الحقيقية وتأثيره الدائم.

الفيلم، بدءًا من عنوانه الذي يستدعي تأملاً نقديًا معمقًا، لا يقف عند حدود كونه مجرد علامة تعريفية للعمل السينمائي، بل يحمل في طياته بذورًا دلالية عميقة تتشابك بعمق مع الأحداث والشخصيات التي تتوالى وتظهر على الشاشة.

في ظاهره وبادي الرأي، يبدو الاسم أشبه بتكرار صوتي ذي إيقاع مرح وخفيف الظل، يوحي بنوع من العبثية أو البساطة في الطرح، وهو ما قد يتوقع المشاهد أن يلاقيه في فيلم كوميدي يستهدف فئة الشباب. إلا أن هذا التكرار اللفظي يحمل في طياته إمكانية تأويل أعمق وأكثر دلالة، يمكن ربطها بشكل فني بالأحداث التي تتكشف وتظهر تباعًا خلال سياق الفيلم.

فعلى المستوى الصوتي، يخلق تكرار مقطع “سيكو” نوعًا من الرنين والإيقاع المميز الذي قد يوحي بالدوران أو التكرار المستمر، وهو ما يجد له صدى واضحًا في دورة الأحداث التي يمر بها البطلان الرئيسيان في الفيلم، “سليم” و”يحيى”.

يجد الصديقان نفسيهما في حلقة متواصلة من المواقف الكوميدية والمفارقات العجيبة التي تبدو وكأنها تتكرر أو تتوالى بشكل حلزوني، بدءًا من نبأ الميراث المفاجئ الذي قلب حياتهما، مرورًا بمحاولاتهما المتخبطة للتصرف في هذه الثروة، وصولًا إلى تورطهما في سلسلة لا تنتهي من المشاكل والعقبات.

هذا التكرار في الأحداث، وإن كان يولد الكثير من المواقف الكوميدية التي تستدعي الضحك، إلا أنه قد يعكس أيضًا طبيعة بعض جوانب الحياة المعاصرة، حيث يشعر العديد من الشباب بالدوران في حلقة مفرغة من البحث الدائم عن الذات الحقيقية وتحقيق الطموحات والأهداف في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية معينة قد تعيق تقدمهم.

من جهة أخرى، فإن كلمة “سيكو” في حد ذاتها قد لا تحمل معنى مباشرًا وواضحًا في اللغة العربية الدارجة التي نتحدث بها يوميًا، مما يضفي على الاسم طابعًا فريدًا وغير مألوف أو تقليدي هذا الغموض اللغوي قد يكون مقصودًا من صناع الفيلم، ليثير فضول المشاهد ويدفعه بشكل غير مباشر إلى البحث عن معنى أو دلالة من خلال مشاهدة الفيلم نفسه ومتابعة أحداثه.

في هذا السياق، يصبح اسم الفيلم بمثابة لغز صغير أو مفتاح غير مباشر لفهم طبيعة العمل السينمائي ورسالته الكامنة. وبالربط بين الاسم والأحداث التي تتوالى في الفيلم، يمكن اعتبار اسم “سيكو سيكو” انعكاسًا واضحًا لحالة عدم الاستقرار والعبثية التي تطغى وتسيطر على حياة البطلين بعد حصولهما المفاجئ على الميراث.

فبدلًا من أن يكون هذا الميراث مصدرًا للراحة والاستقرار المادي والمعنوي، يتحول إلى عامل فوضى واضطراب يدخلهما في سلسلة متواصلة من المواقف غير المنطقية والمضحكة في آن واحد. هذا التكرار في المشاكل والمفارقات العجيبة، الذي يجسده تكرار كلمة “سيكو” في العنوان، قد يعكس أيضًا صعوبة الخروج من دائرة الأزمات أو التحديات المتنوعة التي تواجه الشباب في حياتهم.

علاوة على ذلك، يمكن تأويل اسم الفيلم على مستوى أعمق وأكثر رمزية ليرمز إلى طبيعة العلاقات الإنسانية التي يتم استعراضها في الفيلم. فالتفاعل الديناميكي بين شخصيتي “سليم” و”يحيى”، بما يتضمنه من تناقضات واختلافات ولكنه يؤدي في النهاية إلى التكامل والانسجام، قد يشبه هذا التكرار الصوتي في الاسم، حيث يتناوبان في لعب دور المحرك الرئيسي للأحداث والضحية التي تتأثر بها.

هذا التكرار في الأدوار وفي ردود الأفعال المختلفة لا يخلق فقط ديناميكية كوميدية فريدة تميز التفاعلات بين “سليم” و”يحيى”، بل قد يشير أيضًا إلى نمطية معينة في طريقة تعاملهما مع المشاكل التي تواجههما أو في فهمهما لذواتهما ولبعضهما البعض، وهو ما يضيف طبقة أخرى من التحليل والتمعن في شخصياتهما وعلاقتهما المعقدة.

وإذ نتأمل ونتفكر في كل ما سبق ذكره، يتضح لنا جليًا أن اسم فيلم “سيكو سيكو” ليس مجرد اختيار عابر أو اعتباطي، بل هو عنصر فني بالغ الدلالة والأهمية يحمل في طياته بذورًا عميقة تتشابك وتتكامل مع بنية الفيلم السردية وموضوعاته المتنوعة.

فمن الإيقاع الصوتي المميز الذي يوحي بالتكرار والعبثية في آن واحد، مرورًا بالغموض اللغوي الذي يثير فضول المشاهد ويدعوه إلى التفكير والبحث عن المعنى، وصولًا إلى الربط الدلالي بحالة عدم الاستقرار التي تطغى على الأحداث وديناميكية العلاقات الإنسانية المعقدة التي تجمع بين الأبطال.

ينجح هذا الاسم ببراعة في أن يكون بمثابة نافذة أولية تطل على عالم الفيلم وتعد المشاهد بتجربة سينمائية فريدة من نوعها، تتجاوز حدود الكوميديا السطحية إلى استكشاف أبعاد أعمق في النفس البشرية وفي طبيعة المجتمع المعاصر الذي نعيش فيه.

لقد نجح مخرج هذا العمل السينمائي وصناعه في تجاوز حدود الترفيه المباشر الذي قد يسعى إليه البعض، ليقدموا لنا تجربة سينمائية تلامس مناطق أعمق في فهمنا للواقع المصري المعاصر بكل تفاصيله وتعقيداته. ففي تحليل دقيق للغة الفيلم البصرية والسمعية، يتضح لنا أنه بينما يغلب الطابع الكوميدي على السطح الظاهري للأحداث، تخفي هذه اللغة دقة ملحوظة تخدم السرد القصصي للفيلم بصورة غير مباشرة وذكية.

ويتجلى ذلك بوضوح في الاستخدام المتقن للألوان والإضاءة في مختلف المشاهد؛ إذ تسيطر الدرجات اللونية الحيوية والمبهجة على المشاهد ذات الطابع الكوميدي الصرف، معززةً بذلك حالة الانطلاق والمرح التي يسعى الفيلم إلى خلقها لدى المشاهد. ولكن سرعان ما تتخلل هذه البهجة البصرية تدرجات لونية أكثر واقعية وهدوءًا، وربما أقل سطوعًا وبريقًا، في المشاهد التي تنحو نحو معالجة أوضاع اجتماعية أو اقتصادية أكثر جدية وعمقًا.

هذا التباين الخفي في اللوحة البصرية للفيلم يمكن اعتباره بمثابة تعليق ضمني وذكي على طبيعة الحياة التي يعيشها الأبطال، حيث تتداخل لحظات الفرح العابرة والمؤقتة مع ثقل المسؤوليات والتحديات اليومية التي يواجهونها، ليصبح الفيلم بذلك عملًا سينمائيًا لا يكتفي بتقديم جرعة من الضحك والتسلية، بل ينخرط بعمق في تشريح الواقع المصري المعاصر، مستخدمًا الكوميديا كأداة نافذة لكشف تناقضات المجتمع وصراعات أفراده المختلفة.

بالانتقال إلى تحليل الشخصيات الرئيسية في الفيلم، تبرز شخصيتا “سليم” و”يحيى” كنقطتي ارتكاز سردي أساسيتين، وتمثلان نموذجين نفسيين واجتماعيين بارزين ولهما حضور في المجتمع المصري.

فشخصية “سليم” (التي يجسدها عصام عمر)، بطموحها الجامح وتهورها الواضح في اتخاذ القرارات، يمكن قراءتها وفهمها عبر عدسة التحليل النفسي الفرويدي، حيث يمثل “الهو” الطاغي، الدافع الأساسي للرغبات الجامحة والقرارات الاندفاعية التي لا تفكر في العواقب، في مقابل “الأنا” الهشة التي تكافح جاهدة للسيطرة على هذه النزعات الداخلية القوية. حلمه بتحقيق الثراء السريع من خلال مشروعه التكنولوجي الطموح يعكس رغبة دفينة في تحقيق الذات وتجاوز قيود الواقع الصعبة، لكنه يفتقر إلى الصبر والتخطيط المنظم، مما يوقعه في براثن الفوضى والمشاكل المتلاحقة.

أما عن شخصية “يحيى”، في المقابل، فيقدمها لنا طه دسوقي كنموذج لـ “الأنا العليا” المهيمنة، الساعية دائمًا إلى الاستقرار والامتثال الصارم لقواعد المجتمع وتقاليده. عمله الروتيني الذي يفتقر إلى الإثارة وخوفه الواضح من أي نوع من المغامرة يعكسان رغبة قوية في الأمان وتجنب كل ما هو مجهول وغير مضمون العواقب.

إلا أن لقاءه بشخصية “سليم” يمثل تحديًا حقيقيًا لهذه الثنائية النفسية الواضحة، حيث يبدأ “يحيى” تدريجيًا في استكشاف جوانب مكبوتة من شخصيته لم يكن يدرك وجودها من قبل، وينخرط في مغامرات لم تكن لتخطر بباله في يوم من الأيام.

هذه الديناميكية التفاعلية بين الشخصيتين تجسد صراعًا داخليًا يعيشه الكثير من الشباب في مجتمعنا بين التطلع إلى الحرية والانطلاق وتحقيق الذات وبين الالتزام بتقاليد المجتمع والأعراف السائدة.

فيما يتعلق بالبناء السردي للفيلم واستخدام الكوميديا كأداة للتعبير، يعتمد الفيلم على بناء سردي سريع الإيقاع، مدعومًا بمونتاج متلاحق وسلس، يواكب حيوية الشباب وسرعة وتيرة الحياة المعاصرة التي يعيشونها.

الكوميديا هنا لا تأتي كمجرد وسيلة للتسلية والترفيه عن المشاهدين، بل تعمل أيضًا كأداة نقدية لاذعة وذكية فالمواقف المضحكة التي يتعرض لها الأبطال غالبًا ما تكشف عن جوانب معيبة أو سلبية في الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، مثل البيروقراطية المعقدة، والفساد المستشري في بعض القطاعات، والتأثير السلبي للتكنولوجيا الحديثة على العلاقات الإنسانية وتواصلنا الحقيقي مع الآخرين.

يمكن قراءة هذا النوع من الكوميديا في سياق نظرية “الواقعية الاجتماعية” في النقد الأدبي والفني، حيث يسعى العمل الفني إلى تصوير الواقع بصدق وأمانة، مع تسليط الضوء على مشكلاته وتناقضاته المختلفة. وعلى صعيد العناصر الفنية الأخرى في الفيلم، تساهم هذه العناصر بشكل فعال في تعزيز رؤيته النقدية.

فالتصوير والإضاءة، على الرغم من جودتهما العالية، لا يبتعدان كثيرًا عن النمطية المعهودة في الأفلام الكوميدية التجارية، مما قد يعكس طبيعة الواقع الذي يسعى الفيلم لانتقاده، حيث يسود نوع من التكرار والجمود في بعض الجوانب.

أما الموسيقى التصويرية، وإن كانت مبهجة ومناسبة للأجواء الكوميدية التي تخلقها الأحداث، إلا أنها نادرًا ما ترتقي إلى مستوى التعبير العميق عن المشاعر والأفكار المعقدة التي قد تنطوي عليها بعض المواقف، وهو ما قد يتماشى مع طبيعة الكوميديا التي لا تسعى دائمًا إلى الغوص في أعماق النفس البشرية.

بالنظر إلى الاحتمالات التأويلية المتعددة للفيلم، بعيدًا عن السطح الظاهري للكوميديا المباشرة في فيلم “سيكو سيكو”، تلوح في الأفق احتمالات تأويلية أعمق تفتح نافذة على رؤى أوسع يمكن للمشاهد المتفحص والناقد أن يراها في رحلة “سليم” و”يحيى” كرمزية أوسع لصراع الشباب المصري بين التمسك بالأحلام والطموحات وبين قسوة الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يواجهونه.

قد يُقرأ الميراث المفاجئ ليس فقط كمحفز للأحداث الكوميدية وتسلسلها، بل كرمز للفرص الضئيلة أو غير المتوقعة التي قد تتاح للشباب في حياتهم، وكيفية التعامل معها إما بتهور واندفاع أو بحذر وتردد.

كما يمكن تأويل العلاقة المعقدة بين “سليم” المندفع و”يحيى” المتحفظ كتمثيل لثنائية كامنة في النفس البشرية، بين الرغبة العارمة في الانطلاق والتحرر من القيود والخوف الفطري من المجهول والحاجة الأساسية إلى الاستقرار والأمان. ونجاح صداقتهما في نهاية المطاف قد يحمل رسالة ضمنية وهامة حول أهمية التوازن في حياتنا وتقبل الاختلاف بيننا كبشر.

يتركنا فيلم ” #سيكو  سيكو”، على الرغم من استقباله الجماهيري الحافل الذي يعكس تلبية لرغبات شريحة واسعة من المشاهدين في الحصول على الترفيه الخفيف والممتع، أمام مرآة تعكس طبيعة العلاقة المعاصرة بين المنتج السينمائي والجمهور المتلقي.

فبينما تظل جاذبية الكوميديا المباشرة وشعبية النجوم اللامعة محركين قويين للإقبال الجماهيري على دور العرض، فإن الفيلم، بدءًا من اسمه الذي يحمل في طياته إيحاءً بالدوران والعبثية، يدعونا إلى التساؤل والتفكير مليًا في المدى الذي يمكن أن تتجاوزه الكوميديا التجارية نحو استكشاف أعمق وأكثر جدية لقضايا الشباب والمجتمع وهمومهم الحقيقية.

وكما أن تكرار مقطع “سيكو” في العنوان يوحي بدورة مستمرة من الأحداث والمواقف المتشابهة، فإن نجاح الفيلم يفتح بدوره دائرة واسعة من التساؤلات النقدية حول معايير التقييم الفني والاجتماعي للأعمال السينمائية في ظل هيمنة منطق السوق وتفضيلات الجمهور الآنية والمؤقتة، ليظل السؤال معلقًا ومفتوحًا حول قدرة الكوميديا المصرية على الموازنة بذكاء بين إضحاك جمهورها وتقديم تأثير عميق ومستدام في واقعه وحياته!

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *