#مقالات رأى

نْكْتَفِي بهَذَا القَدْرِ !

بقلم: الدكتور عادل اليماني 

مَنْ لم يطرقْ بابَنا ، والروحُ ترتجفُ ، فلا مرحباً به ، والنبضُ منتظمُ !!

عندَما أصابتِ الرصاصةُ قلبي ، لم أمُتْ ، ولكنَّني مِتُ لما رأيتُ مُطلقَها . قالَها جبرانُ ، إذ ضاعَ الوفاءُ ، وغلَبتِ المنفعةُ ، وسادَ النفاقُ ، وغَابَ الحُبُ .

يبدأون معكَ حياةً نصفَ ميتةٍ ، فتبدأُ معهم موتاً فيه نصفُ حياةٍ ، وما البالُ ببدايةٍ ليسَ فيها إشراقٌ ، بدايةٍ تأتي ، ومعها النهايةُ ! .

يأتي على النَّاسِ زمانٌ ، تكونُ العافيةُ فيه ، على عشرةِ أجزاءٍ ، تسعةٍ منها في اعتزالِ الناسِ ، والعاشرةِ في الصمت ، كما أرشدَ أميرُ المؤمنين  ، عليٌّ ابنُ أبي طالبٍ ، رضي اللهُ عنه وأرضاه ..

قالَ أحدُهم :  يا رسولَ اللهِ ما النَّجاةُ ؟ قالَ أمسِكْ عليكَ لسانَكَ ، وليسعْكَ بيتُك ، وابكِ على خطيئتِكَ ..

ثلاثُ نصائحَ سطرَها التاريخُ بالذهبِ ، للمُعلمِ الأولِ ، صلي اللهُ عليه وسلمَ ، وهي إجابةٌ عن سؤالٍ شديدِ الأهميةِ والخطورةِ ، عن كيفيةِ النجاةِ ،  أَوَلَيْسَ سؤالاً مهماً ؟ بلي ، مهمٌ للغاية ، أَوَلَيْسَتِ النجاةُ غايةَ الإنسانِ ؟ بلي ، هي غايتُه فعلاً .

تنجو بنفسِك ، بروحِك ، بقلبِك ، بعقلِك ، بكُلِّ حواسِك وجوارحِك ، نصرٌ عظيمٌ ، لا شكَ .

وعبقريةُ الإجابةِ ، تكمنُ في الإمساكِ عن الكلامِ ، والتزامِ البيتِ ، والبُكاءِ علي الذنبِ ..

أمسِكْ عليكَ لسانَكَ : توقفْ تماماً عن الحديثِ عن الناسِ ، عن أذاهم ، عن تجربتِك المؤلمةِ معهم ، عن عتابِهم ، عن سبِهم ، عن ذمِهم ، وكأنَّهم والعدمُ سواءٌ ، ويكفيك في شأنِهم : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ..

ومادُمتَ  ستُمسِكُ لسانَك عن حديثِ السوءِ ، فيقيناً ستُطلقُه بحديثِ الخيرِ ، الكلامِ الطيبِ ، الذِكرِ ، الأمرِ بالمعروفِ ، النهيِّ عن المُنكرِ .

عندَها ستشعرُ بأنَّك إنسانٌ حقاً ، وستكونُ محبوباً ومطلوباً ، إذ عفَّ لسانُك ، وحَسُنَ كلامُك .

وليسعْكَ بيتُك : بيتُك أوسعُ البيوتِ ، وإنْ كانَ عُشَّاً صغيراً ، بيتُك الصغيرُ سترُك ، فيه كرامتُك ، أنتَ ملكُه وأميرُه ، وصاحبُ الرأيِّ والقرارِ فيه ، فيما أنتَ في قصورِ الناسِ ضيفٌ ، قد يكونُ ثقيلاً ، وقد تُسَاءُ معاملتُه ، لقد خلقَ اللهُ لكَ نفساً كريمةً ، فلا تُعذبْها بالتذللِ للناسِ ، والاحتياجِ إليِّهم  ، وطرقِ أبوابِهم ، والأكلِ علي موائدِهم ، والانبهارِ بما لديِّهم من عَرَضٍ زائلٍ .

وابكِ على خطيئتِكَ : فهو طريقُ التوبةِ والإنابةِ ، إذ صمتُ اللسانِ ، والزهدُ فيما في أيدي الناسِ ، يفتحانِ الطريقَ واسعاً نحوَ الأُنسِ باللهِ تَعَاَلي ، ودائماً ، التخليةُ قبلَ التحليةِ ، البكاءُ بالتوبةِ ، قبلَ الطلبِ والرجاءِ .

قالَ ابنُ تيميةَ : وما يفعلُ أعدائي بيَّ ؟! إنْ قتلوني ، فقتلي شهادةٌ ، وإنْ نَفَوني ، فنفْيي سياحةٌ ، وإنْ سجنوني ، فسجْني خلوةٌ مع ربيِّ ..

الناسُ مصالحُ ، يا صديقي ، وعدالةُ   الأرضِ مُذ خُلِقَتْ مزيفةٌ ، والعدلُ في الأرضِ ، لا عدلٌ ولا ذممُ .

لقد استشعرَ هَذَا النازفُ قلبُه ، كيفَ إخلاصُ الكلابِ ، وكيفَ خيانةُ البشرِ ؟! فقالَ :

وما زالَ يرعى ذِمّتي ويَحُوطُني ،،

ويَحفَظُ عِرضي ، والخليلُ يخونُ ..

فيا عجٙبًا لِلخِلِّ يَهتِكُ حُرمَتي ،،

ويا عجبًا للكلبِ كيفَ يصونُ ..

إخوانُ النبيِّ ، أبناءُ النبيِّ ، عن يوسفَ عليه السلامُ أتحدثُ ، لما كانتْ لهم مصلحةٌ ، قالوا لأبيهم : فَأَرْسِلْ مَعَنَآ ( أَخَانَا ) ولما انتهتِ هَذِهِ المصلحةُ ، قالوا : يَٰٓأَبَانَآ إِنَّ ( ٱبْنَكَ ) سَرَقَ .. في الأولي ، كانَ أخاً لهم ، وفي الثانيةِ ، هو فقط ابنُ أبيهم !!

بانتهاءِ مصلحتِهم ، تغيرَ خطابُهم  !!

وبانتهاءِ المصلحةِ ، يتبددُ الودُ ( المصطنعُ ) وتتوقفُ الهواتفُ عن الاتصالِ  ، وكأننا أمامَ نهايات قصيدةِ الأطلال :

يَاحَبِيْبي كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءْ **

مَا بِأَيْدينَا خُلِقْنَا تُعَسَاءْ ..

رُبَّمَا تَجْمَعُنَا أَقْدَارُنَا **

ذَاتَ يَوْمٍ بَعْدَمَا عَزَّ الِّلقَاءْ ..

فَإِذا أَنْكَرَ خِلٌّ خِلَّهُ **

وَتَلاَقَيْنَا لِقَاءَ الغُرَبَاءْ ..

وَمَضَى كُلٌّ إِلَى غَايَتِهِ **

لاَ تَقُلْ شِئْنَا! فَإِنَّ الحَظَّ شَاء ..

وبعدَ ذلكَ كُلِّه ، سامحْ ، والتمسِ الأعذارَ ، ونقِ قلبَك من الحُزنِ ، وأغلقْ بابَ العتابِ ، فإنَّك تُتاجرُ مع اللهِ ، لا مع البشرِ ، وبينَك وبينَه ، سُبحانَه ،  حساباتٌ كثيرةٌ  ، ستكونُ سهلةً يسيرةً ، لو كُنتَ عفواً حليماً ..

وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوٓاْ ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ..

بلي ، نعفو ونصفحُ ياربُّ ، تماماً كما فعلَ مع الآياتِ ، الصديقُ أبو بكرٍ ، فعفا وسامحَ وأعادَ الصدقاتِ لمَنْ خاضَ في عرضِ ابنتِه ، التقيةِ النقيةِ ، أمِ المؤمنين عائشةَ ، رضي اللهُ عنهما وأرضاهما ..

نعفو ونصفحُ لا بأسَ ، نعتزلُ ما يؤذينا ، لا بأسَ أيضاً ، ولا تعارضَ بينَهما علي الإطلاقِ .

ونْكْتَفِي مع الناسِ ، بهَذَا القَدْرِ !

نقلا عن الأهرام  ١٦ ديسمبر

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *