حكاية ألف عامٍ من العبادة.. مساجد الفسطاط تحتضن الزائرين بعد ترميمها

مساجد الفسطاط.. تراثٌ إسلاميٌ يضيء شوارع القاهرة القديمة
كتبت – روان أحمد
تعد مساجد الفسطاط، شاهدًا حيًا على عظمة العمارة الإسلامية في مصر؛ حيث اجتمعت فيها البساطة، والجمال، وروح التاريخ، ومع مرور الزمن، تعرضت بعض هذه المساجد لعوامل التآكل والإهمال، مما استدعى تدخلات تطويرية للحفاظ على قيمتها التاريخية والدينية؛ واليوم تشهد الفسطاط العديد من مشاريع الترميم والتحديث، تهدف إلى إعادة إحياء هذه الجوامع، مع الحفاظ على أصالتها المعمارية، وإبراز دورها الحضاري.
ويرصد موقع “شروق نت”، جهود التطوير التي تشهدها مساجد الفسطاط، بين الحفاظ على التراث ومتطلبات الحداثة؛ والتي منها:
- جامع عمرو بن العاص، وهو أول وأقدم جامعٌ في مصر وإفريقيا، ولُقب “بتاج الجوامع”، ويعرف أيضًا “بالجامع العتيق”، أنشأه الصحابي الجليل عمرو بن العاص، عام 21هـ/ 641م، بعد أن قام بفتح مصر عام 20هـ/ 640م، بأمرٍ من الخليفة عمر بن الخطاب، وأسس مدينة الفسطاط عاصمة البلاد في ذلك الوقت.
واستخدم الجامع في بداية الأمر، كمقرٍ لاجتماع المُسلمين وقوات عمرو بن العاص، وكانوا أقلية في ذلك الوقت، وقد شارك عددٌ من صحابة رسول الله في بناء هذا المسجد؛ كالزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت.
وتعرض المسجد للعديد من التغيرات المعمارية، فكانت مساحته وقت إنشائه صغيرة جدًا، وتسوده البساطة، إذ بني على قوائمٍ من جذوع النخل، وكان مغطى بالجريد، ثم زادت المساحة الكلية للمسجد تدريجيًا، حتى وصل إلى شكله الحالي؛ وعلى الرغم من أن البناء الحالي يرجع إلى القرن العشرين، إلا أنه ما زال مُحتفظًا بطابع العمارة الإسلامية المبكرة.
- مسجد الفتح: يُقال إنه كان موجودًا في الفسطاط خلال العصر الفاطمي، لكن لم تبقَ له آثارٌ واضحة.
- جامع الشيخ أبو السعود: يقع بالقرب من الفسطاط القديمة، ويُنسب إلى الشيخ أبو السعود، أحد الأولياء الصالحين في العهد العثماني.
- مسجد الحسين: يقع في القاهرة القديمة، في الحي الذي سمي باسم الإمام (حي الحسين)، وبجوار المسجد يوجد خان الخليلي الشهير، وجامع الأزهر.
تاريخ مسجد الحسين
وبني مسجد الحسين، في عهد الفاطميين عام 549ه، الموافق عام 1154م، تحت إشراف الوزير الصالح طلائع، ويضم المسجد 3 أبوابٍ مبنية بالرخام الأبيض، تطل على خان الخليلي، منها بابٌ بجوار القبة، يعرف بـ “الباب الأخضر”، وفي عام 1171م، أنشأ صلاح الدين الأيوبي مدرسة بجوار الضريح عرفت باسم “المشهد”، وهي المدرسة التي هُدمت فيما بعد، وبني في مكانها الجامع الحالي.
وفي أواخر العصر الأيوبي عام 1235م، شرع الشيخ أبوالقاسم بن يحيى بن ناصر السّكري، المشهور باسم “الزرزور” في بناء مئذنة فوق باب المشهد المعروف، حاليًّا باسم الباب الأخضر، وتوفي “أبوالقاسم” قبل أن يتم بناء المئذنة، فأتمها ابنه عام 1236م، وهي مئذنة حافلة بالزخارف، وتبقى من هذه المئذنة قاعدتها المربعة، وعليها لوحتان تذكاريتان من الرخام تتضمنان تاريخ بناء المئذنة، واسم المُنشئ.
وفي عام 1862م، أمر الخديوي إسماعيل بتجديد المشهد، وتوسيعه، وبناء الجامع الحالي، وتم بناء الجامع عام 1873م، وبناء مئذنته الحالية على طراز المآذن العثمانية عام 1878م، وأورد على مبارك وصفًا كاملاً لجامع الحسين، وقال إن الخديوي اسماعيل أمر بتجديده وتوسعته، وتوسعة رحابه وطرقه.
وفي عام 1893م، أمر الخديوي عباس حلمي الثاني ببناء غرفة في الناحية الجنوبية لقبة المشهد، خُصِّصت لحفظ الآثار النبوية الشريفة التي تشمل قطعة من قميص النبي محمد، ومكحلة، ومرودين، وقطعة من عصاه، وشعرتين من اللحية الشريفة، بالإضافة إلى مصحفين شريفين نُسِب أحدهما إلى الخليفة الراشد الثالث “عثمان بن عفان”، ونسب الثاني إلى الخليفة الراشد الرابع “علي بن أبي طالب”، ولفت إلى أن أول ما عُرف عن الآثار النبوية بمصر، اشتراها الوزير الصاحب تاج الدين محمد بن حنا خضر الدين، ونقلها إلى مصر، وبنى لها مسجدًا عُرف باسم «رباط الآثار»، في حي أثر النبي، في مصر القديمة حاليًّا، وذلك في أوائل القرن 14م.
تسمية المسجد بـ “الحسين”
سُمي المسجد بهذا الاسم استنادًا لروايات المؤرخين المصريين، لوجود رأس الحسين بن علي مدفونًا به، إذ تذكر هذه الروايات أنه مع بداية الحروب الصليبية خاف حاكم مصر الخليفة الفاطمي على الرأس الشريف من الأذى الذي قد يُلحق بها في مكانها الأول في مدينة عسقلان بفلسطين، فأرسل يطلب قدوم الرأس إلى مصر، وحمل الرأس الشريف إلى مصر، ودفن في مكانه الحالي، وأقيم المسجد عليه.
وصف المبنى
يشتمل المبنى على خمسة صفوفٍ من العقود المحمولة على أعمدة رخامية، وبني محرابه من قطعٍ صغيرة من القيشاني الملون بدلًا من الرخام، وبجانبه منبر من الخشب، يجاوره بابان يؤديان إلى القبة، وثالث يؤدي إلى حجرة المخلفات التي بنيت عام 1311هـ.
وبني المسجد بالحجر الأحمر، على الطراز الغوطي، أما منارته التي تقع في الركن الغربي القبلي فقد بنيت على نمط المآذن العثمانية اسطوانية الشكل، ولها دورتان وتنتهي بمخروطٍ، وللمسجد ثلاثة أبوابٍ من الجهة الغربية، وبابٌ من الجهة القبلية، وبابٌ من الجهة البحرية يؤدي إلى صحن به مكان الوضوء.
مسجد السيدة نفيسة
ويقع المسجد في منطقة السيدة نفيسة بالقاهرة، ويعد أقدم المساجد في العاصمة؛ حيث يضم مقام السيدة نفيسة بنت الحسن، التي عرفت بـ “نفيسة العلوم”؛ نظرًا لعلمها الغزير، ومكانتها الدينية، ويمثل المسجد إحدى المحطات المهمة في طريق آل البيت، والذي يشمل العديد من المقامات الشريفة؛ مثل: مشهد الإمام علي زين العابدين، ومسجد السيدة زينب، والسيدة سكينة بنت الحسين.
وذكر المؤرخ “المقريزي”، أن أول من بنى قبر السيدة نفيسة، هو عبيد الله بن السري، والي مصر في العصر العباسي، ثم أعيد بناء الضريح في العهد الفاطمي؛ حيث أضيفت له قبة زُيِّنت بنقوش بديعة، وخلال العصور التالية، شهد المسجد العديد من عمليات الترميم؛ حيث قام السلطان الناصر محمد بن قلاوون بتكليف الخلفاء العباسيين بالإشراف على المشهد النفيسي، فيما شهد العهد العثماني والمملوكي عدة تجديدات للحفاظ على هذا الصرح الإسلامي العظيم.
تفاصيل مشروع الترميم والتطوير
وبدأت الجهات المعنية في أعمال التطوير والترميم، بناءً على توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، ذلك تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، في يناير 2022م، وشملت مرحلتين رئيسيتين.
وبدأت أعمال المرحلة الأولى، بتطوير وترميم ورفع كفاءة الضريح، كذلك معالجة السطح الخاص بالضريح والمسجد القديم، وقد شملت أعمال الضريح تطوير وترميم الأرضيات الرخامية، والحوائط الرخامية القديمة، والأبواب والشبابيك الخشبية، واستبدال بعضها بأبوابٍ وشبابيكٍ جديدة من خشب الأرو، وترميم الأحجار داخل الضريح، والشبابيك الجصية المعشقة بالزجاج، كذلك ترميم الزخارف المتواجدة بقبة الضريح من الداخل، وزخارف السطح الخشبي، والشخشيخة داخل الضريح، وفك سقف الغرفة الملحقة المتهالك، وعمل سقفٍ جديدٍ خشبيٍ (براطيم وطبق خشبي)، وتنفيذ زخارفٍ جديدة مُماثلة للموجودة بالضريح.
أما بالنسبة لأعمال سطح الضريح والمسجد القديم، فقد شملت ترميم وتطوير البلاط القديم وما أسفله من دكات وصولات للسطح الخشبي، ومعالجة السطح الخشبي بتغيير البراطيم التالفة، كذلك الطبق الخشبي المتهالك ببراطيم وطبقٍ خشبيٍ جديدٍ، وعمل طبقات التشطيبات الجديدة، التي تشمل عمل العزل والدكات والبلاط.
وشملت أعمال المرحلة الثانية، على مُعالجة سطح المسجد الجديد، بما يشمله من ترميم وتطوير البلاط وما أسفله، وعمل تشطيبات جديدة، وهي “العزل، والدكات، والبلاط”، وترميم ورفع كفاءة الواجهات الداخلية والخارجية، وترميم المئذنتين والقبة الخاصة بالمسجد، وترميم المنبر والمحراب، وترميم الزخارف الخاصة بالشخشيخة الخشبية بمنتصف المسجد القديم، ورفع كفاءة دهانات المسجد القديم، بالإضافة إلى رفع كفاءة الأبواب والشبابيك الخشبية، وعمل تجاليد خشبية مزخرفة، واكسسوارات نحاسية، وعمل أوتارٍ خشبية، وعمل غرفة لكبار الزوار، تشمل أعمال المباني، والبياض، والدهانات، وتجاليد الخشب المزخرفة للحوائط والأسقف، ورفع كفاءة دهانات الرواق المؤدي للمسجد القديم.
خطة تطوير القاهرة التاريخية
وتأتي عملية تطوير مسجد السيدة نفيسة ضمن مشروعٍ متكاملٍ لإحياء القاهرة التاريخية، ويشمل تجديد مناطق “السيدة زينب، الحسين، الفسطاط، سور مجرى العيون”، ويهدف هذا المشروع إلى الحفاظ على الإرث الإسلامي لمصر، وتعزيز السياحة الدينية؛ حيث تُشكل هذه المواقع وجهة مهمة للزوار من داخل مصر وخارجها.
ويعد افتتاح مسجد السيدة نفيسة بعد تطويره خطوةً مهمةً في الحفاظ على التراث الإسلامي، وتعزيز الروحانية التي تتميز بها مصر، ويؤكد هذا المشروع التزام الدولة بحماية المعالم الدينية والتاريخية، بما يعكس تقديرها العميق لأهل البيت، والتراث الإسلامي العريق، وبفضل هذه الجهود، يستمر المسجد في كونه منارة للعلم والدين، ويجذب الزوار والمصلين من كل أنحاء العالم الإسلامي.
مسجد السيدة زينب
كما يحتل مسجد السيدة زينب -رضى الله عنها- حفيدة رسول الله عليه الصلاة والسلام، التي وفدت إلى مصر عام 61 هجريًا، مكانة كبيرة في قلوب المصريين؛ خاصةً من مريدي آل البيت الذين يحرصون بشدة على زيارة المسجد والضريح، كدليلٍ منهم على محبتهم لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الكرام؛ ليكون درة تاج مساجد آل البيت بالقاهرة.
وافتتح الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، مسجد السيدة زينب، بعد انتهاء أعمال ترميمه وتجديده، برفقة السلطان “مفضل سيف الدين”، سلطان طائفة البهرة بالهند، والأمراء من أشقاء وأنجال السلطان؛ منهم: الأمير القائد جوهر عز الدين، والأمير جعفر الصادق عماد الدين، ومفضل محمد، ممثل السلطان بالقاهرة.
وحرص القائمون على تجديد مسجد السيدة زينب على أن يكون التصميم على أحدث طرازٍ إسلاميٍ، كما أن الرخام مزخرفًا بشكلٍ محفورٍ بارزٍ داخل الحوائط، ما يعطي لحوائط المسجد المنظر الجمالي العتيق، وصممت دورات المياه؛ لتُضاهي دورات مياه المسجد الحرام، والمسجد النبوي، من ناحية التصميم والعدد، وجميع الحلي الداخلي للمسجد من الرخام المحفور بطريقةٍ حرفيةٍ غير موجودٍ في مسجدٍ آخر.