تأثير تغير الفصول على الحالة النفسية والاضطرابات المرتبطة بها

كتبت: نبيلة روماني
يتأثر الإنسان بعدة عوامل بيئية تحيط به، ومن أكثرها تأثيرًا على صحته النفسية ، التغير الموسمي بين الفصول. هذه التغيرات لا تقتصر على درجات الحرارة فقط، بل تشمل تغيرات في كمية الضوء الطبيعي، ونمط الحياة اليومي، وساعات النوم والاستيقاظ، وهي عوامل تؤثر بشكل مباشر على كيمياء الدماغ وتنظيم المزاج.
وعند الانتقال من فصل لآخر، وبشكل خاص من الصيف إلى الخريف أو من الخريف إلى الشتاء، تزداد احتمالية الإصابة بما يعرف في الطب النفسي بـ الاضطراب العاطفي الموسمي ، وهو نوع من الاضطرابات المزاجية الدورية المرتبطة بتغير الفصول.
هذا النوع من الاضطراب لا يحدث نتيجة سبب واحد مباشر، بل هو ناتج عن تفاعل معقد بين عوامل بيولوجية وبيئية ونفسية. أهم هذه العوامل هو انخفاض التعرض لأشعة الشمس، مما يؤدي إلى اضطراب في الساعة البيولوجية للجسم ، ويؤثر على توازن بعض النواقل العصبية مثل السيروتونين الذي يلعب دورًا رئيسيًا في تنظيم المزاج والشهية والنوم، والميلاتونين، الذي يُفرز في الظلام لتنظيم الإيقاع اليومي للنوم والاستيقاظ.
ويؤدي هذا الاضطراب إلى ظهور أعراض مثل انخفاض الطاقة، واضطراب في النوم، وزيادة الرغبة في تناول الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات، والشعور بالخمول والحزن، وفي بعض الحالات قد يتطور إلى عزلة اجتماعية أو حتى أفكار سوداوية أو ميول انتحارية.
كما قد يصاحب ذلك أحيانًا تباطؤ نفسي حركي يظهر في صورة بطء في التفكير أو الحركة والملفت أن هذه الأعراض تتكرر سنويًا لدى البعض وتبدأ غالبًا في أواخر الخريف، وتخف تدريجيًا مع بداية الربيع، حين تعود مستويات الضوء إلى طبيعتها.
العلاقة بين الضوء الطبيعي والصحة النفسية تعود إلى آليات فسيولوجية داخل الدماغ، حيث يؤثر الضوء على منطقة تُدعى النواة فوق التصالبة ، وهي جزء من تحت المهاد والمسؤولة عن تنظيم الإيقاع اليومي للجسم. وعندما تقل كمية الضوء، يحدث اضطراب في هذا التنظيم، مما يؤدي إلى مشكلات نفسية قد تصل إلى الاكتئاب.
ليس الجميع يتأثر بنفس الدرجة، فهناك أشخاص لديهم حساسية بيولوجية أعلى تجاه التغيرات البيئية. كما تلعب الوراثة دورًا أيضًا، إذ أظهرت دراسات أن بعض الجينات المرتبطة بالسيروتونين والميلاتونين تجعل بعض الأفراد أكثر عرضة لهذه الاضطرابات.
من ناحية العلاج، فقد أثبت العلاج بالضوء فعاليته، حيث يجلس الشخص أمام مصدر ضوء قوي يشبه ضوء الشمس الطبيعي بتركيز يصل إلى 10,000 لوكس لمدّة تتراوح من 20 إلى 30 دقيقة يوميًا، مما يساعد على إعادة ضبط الساعة البيولوجية وتحسين المزاج. إلى جانب ذلك، فإن العلاج السلوكي المعرفي للاضطراب الموسمي يساعد الأفراد على التعرف إلى الأفكار السلبية المرتبطة بتغيرات الجو والتعامل معها بطرق معرفية وسلوكية صحية. وفي بعض الحالات، يمكن اللجوء إلى استخدام مضادات الاكتئاب، خاصة مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية مثل “سيرترالين” أو “فلوكستين”، ولكن ذلك يجب أن يتم تحت إشراف طبي مختص.
والوقاية من هذا النوع من الاضطرابات تتطلب وعيًا مبكرًا بها، فمثلاً يمكن للأشخاص المعرضين لها أن يبدؤوا في إدخال روتين يومي يتضمن التعرض لأشعة الشمس كلما أمكن، والابتعاد عن العزلة، والاهتمام بالتغذية الصحية والنشاط البدني، كما يُنصح بتناول أطعمة غنية بـ فيتامين D وأوميغا-3، وهي عناصر تُعتبر بمثابة دعم نفسي بيولوجي للجسم في مواجهة التغيرات الموسمية.
في النهاية، علينا أن ندرك أن الصحة النفسية تتأثر بعوامل بيئية بشكل كبير، وأن التغيرات الفصلية قد تكون أكثر من مجرد اختلاف في الطقس، فهي تمس الجهاز العصبي والمزاجي للإنسان، وقد تؤدي إلى اضطرابات تحتاج إلى اهتمام جاد، وفهم، وتعامل علمي سليم.