حرب المصطلحات الإعلامية واللعب بالعقول

يعيش العالم اليوم إلى جانب حرب الأسلحة حروبًا إعلامية كلامية تعرف بحرب المصطلحات، فهى أحدى سمات عصر الرقمنة وتداول المعلومات
فبمجرد المتابعة الأولية لأحداث الصراعات فى المنطقة والمتمثلة فى الصراع الإيرانى – الإسرائيلى – الأمريكى أوالهجوم الإسرائيلى المستمر على غزة فى العديد من وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، نكتشف الزوايا المظلمة التى تختبئ فيها العديد من الأيديولوجيات التى تقف خلف هذه الوسائل الإعلامية التى أسهمت فى انتقاء مصطلحات معينة تتناغم مع أفكارها وأهدافها وهنا تبرز أهمية اللغة التى تعد واحدة من أهم وسائل التأثير فى توجيه الصراعات بل وإعادة تعريفها حتى بات واضحًا للقاصى والدانى أن ما نشهده هو بالفعل حرب مصطلحات، وهى – كما حددها علماء اللغة – مناوشات لغوية تحدث بين أطراف مختلفة لتعزيز وجهات نظرهم أو تأثيرهم على الآخرين.
وهذه الحروب – حروب المصطلحات – تمتلك أهمية كبيرة فى تشكيل وتوجيه الرأى العام العالمى بل التأثير فى السياسات والقرارات من خلال صياغة خطاب إعلامى داعم للحرب النفسية المستمرة فى الإقليم، حيث تسعى الأطراف المتنازعة سواء إيران أو إسرائيل او أمريكا إلى تشكيل صورة إيجابية عن نفسهاوتحاول تشويه الطرف الآخر وتستخدم فى ذلك وسائل إعلامها بل جيوشها الإلكترونية التى بدورها تستخدم مصطلحات إعلامية منحوتة بدقة وتوظفها فى التعبير عن الحالة التى تناسب الصورة النمطية التى ترغب فى نقلها وغرسها فى أذهان الرأى العام، ففى وصف من فارقوا الحياة جراء الهجوم الصاروخى هناك ثلاثة مفردات «الشهيد، القتيل، الضحية» تستخدم كل وسيلة إعلامية ما يناسب إيديولوجيتها، حيث يرافق هذا الاستخدام ثقافة مجتمعية ودينية ونفسية لها أبعاد موغلة فى تاريخ كل بلد، فمصطلح شهيد يحمل قدسية دينية ويطلق على الأشخاص الذين ضحوا بأنفسهم من أجل عقائدهم وأوطانهم، أما «الضحية» فهو الذى دفع ثمن القصف الصاروخى دون أن يكون له فيها ناقة ولاجمل ومثله «القتيل» وكذلك مصطلح «معتقل» و«أسير» وغيرها العديد من المصطلحات التى تتقارب فى المعنى ظاهريًا ولكنها تتناقض فى المدلول المعجمى.
وفى هذا الإطار لا يختلف اثنان على أن أداء الإعلام فى العالم العربى والغربى على حد سواء اتسم بالتناقض بين الواقع والتوجه والكلمات المسموعة وبين وقوعه فى فخ الابتعاد عن المحتوى الرقمى الذى فضح كل شىء داخل الأراضى الإسرائيلية والإيرانية على حد السواء، فجاء رواد مواقع التواصل الاجتماعى النشطون والذين نقلوا الرواية أو السردية الإسرائيلية من خلال متابعتهم لصفحات ومواقع إخبارية إسرائيلية ليطرحوا مثلًا أن ما تنقله وسائل الإعلام الإسرائيلية للمجتمع الخارجى من ضرب مدن إيرانية وإسقاط مسيرات إيرانية وضرب مفاعلات إيرانية ينافى تمامًا ما تنقله لوسائل الإعلام الداخلية الذى يعرض جزء منه على مواقع التواصل الاجتماعى من مشاهد ضرب تل أبيب وحيفا ،إسقاط مسيرات إسرائيلية، نجاح إيران فى تدمير شركات توليد وتوزيع الكهرباء وأن أكثر من 9 آلاف منزل فى إسرائيل بلا كهرباء ولامياه، توقف المطارات ولجوء أكثر من 6 ملايين إسرائيلى للملاجئ وتدمير البورصة ومقر الموساد ومركز وايزمان وغيرها…
فالمسألة إذن ليست توظيف وسائل الإعلام لنقل معلومات أو أخبار بهدف التنوير كما تعلمنا فى كليات الإعلام ولكنها حروب مصطلحات مخطط لها جيدًا وتبدأبمرحلة التخطيط وفيها يكون صانع المحتوى منصباً على تحديد أهداف المصطلح والتأثير المطلوب من استخدامه، بعدها تأتى مرحلة الإعداد والبناء وفيها يتم صياغة وتركيب جمل مختصرة بأقل عدد ممكن من الكلمات ثم تأتى مرحلة التبنى من خلال تداول المصطلح إعلاميًا لتصل الوسيلة الإعلامية إلى مرحلة الاستقرار وفيها يتم نشر استخدام المصطلح بين أفراد الجمهور من خلال تكرار استخدامه وغرسه وتعد أقصى درجات الاستقرار هى تبنى الجمهور غير المتخصص للمصطلح بل استخدامه ولأن اللغة ومصطلحاتها كائن حى له دورة حياة تأتى مرحلة الغروب التى ينتهى فيها استخدام المصطلح ليحل محله مصطلح آخر يغطى على استخدامه.
فالدرس المستفاد بعد نهاية هذه الحرب التى نعجز عن وضع مسمى فعلى لها:
-إن معظم وسائل الإعلام عمدت إلى ركوب الأسلوب الدعائى لنفسها سواء لكسب التعاطف والدعم الدولى أو من قبيل الدعاية السياسية.
– إن قضية التعامل مع المصطلحات الإعلامية وقت الحروب والصراعات تعتبر من الآن وصاعدًا نهجًا معروفًا فى المعالجة الإعلامية بل السياسية.
– إن البحث عن الهوية الإعلامية والقراءة المتصفحة لدلالات المصطلحات جزء لا يتجزأ من فهم وإدراك اتجاهات الرأى العام العالمى.
– إن تأطير الخطاب الإعلامى ازدادت أهميته فى عصر تتصارع فيه التكنولوجيا لإيجاد حالة من الفوضى الإعلامية.
وختامًا لابد لإعلامنا العربى من الوعى بأهمية المصطلحات التى يستخدمها على منصاته، إذ لا مجال للخطأ المتعمد أو غير المتعمد.