# Tags
#ثقافة وفن

الرجل الذي لم يُر وجهه أبداً..اللغز الذي أرق ملوك فرنسا لثلاثة قرون

كتب:عبدالرحمن ابراهيم

على مدار سنوات طويلة سبقت اندلاع الثورة الفرنسية، عاش الفرنسيون تحت تأثير روايات غامضة أسهمت في تحويل سجن الباستيل إلى رمزٍ للقمع والظلم. فقد انتشرت في باريس شهادات وحكايات عن دهاليز السجن المظلمة، وعن أشخاص دخلوا أسواره ولم يخرجوا منها قط، بينما غذّى فلاسفة التنوير وعلى رأسهم فولتير تلك الصورة السوداوية، سواء بدافع المعارضة أو النقد السياسي، رغم أن جزءًا كبيرًا من تلك الروايات كان أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.

من بين القصص الأكثر إثارة والتي ارتبط اسمها بالباستيل، قصة “الرجل ذو القناع الحديدي”، الشخصية التي بقيت هويتها لغزًا، حيّر المؤرخين لأكثر من ثلاثة قرون. هذا السجين الغامض، الذي عاش ومات خلف أقنعة الصمت، ظل واحدًا من أكثر الملفات غموضًا في تاريخ فرنسا الملكية.

بدأت القصة عام 1669 عندما وصل سجين مجهول الهوية إلى سجن بينيرول جنوب شرق فرنسا. حمل الرجل قناعًا حديديًا حجب وجهه كليًا، ونُقل تحت حراسة مشددة بأمر مباشر من الملك لويس الرابع عشر. ومع مرور السنوات، تنقل هذا السجين بين عدد من السجون تحت إشراف واحد من أكثر موظفي الدولة نفوذاً في حينه: بينيني دوفرنيو دي سانت مارس، الرجل الذي ظل مسؤولاً عنه حتى اللحظة الأخيرة.

وقد ورد أول وصف تفصيلي لحالة هذا السجين في أبريل 1687، عندما شاهده سكان إحدى البلدات أثناء نقله إلى حصن سانت مارغريت. كان القناع يغطي وجهه بالكامل، بينما أحاط به الجنود لإخفاء أي ملامح قد تكشف هويته، في وقت كان الملك يفرض تهديدًا صريحًا بأن أي محاولة للتعريف بنفسه ستكون عقوبتها الإعدام الفوري.

وفي سبتمبر 1698، انتهت رحلات السجين الغامض بوصوله إلى سجن الباستيل، ليقضي هناك سنواته الأخيرة حتى وفاته في 19 نوفمبر 1703. بعد موته حرقت السلطات ملابسه وأوراقه وأي شيء قد يقود إلى كشف سره، ثم دُفن باسم مستعار في مقبرة سانت بول، وكأن الدولة أرادت أن يدفن سره معه إلى الأبد.

ومع ذلك، لم تمت القصة. فقد استمرت الأساطير بالتكاثر، خصوصًا بعد أن كتب فولتير الذي سُجن هو نفسه في الباستيل عن السجين الغامض، مؤكدًا أن الرجل ربما كان الأخ الأكبر للملك لويس الرابع عشر، أو حتى توأمه. وانتشرت لاحقًا روايات أدبية تبنى عليها فيكتور هوغو وألكسندر دوما، لتصبح القصة جزءاً من التراث الثقافي الفرنسي.

التفسيرات التاريخية الحديثة قدمت فرضيات مختلفة وأكثر واقعية. فبعض المؤرخين يرجحون أن الرجل هو يوستاش دوجيه، مبعوث الملك الذي عرف أسراراً حساسة تتعلق بالدولة. بينما يرى آخرون أن السجين قد يكون الوزير نيكولا فوكيه، أحد أقوى رجال الدولة، والذي سقط من صالح الملك بعد اتهامات بالتآمر واختلاس الأموال.

ومع تعدد النظريات وتناقض الروايات، يبقى الرجل ذو القناع الحديدي أحد أشهر ألغازه التاريخ الفرنسي، بين الحقيقة والأسطورة، وبين ما أرادت السلطة إخفاءه وما أراد المخيال الشعبي أن يصنعه.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *