مسجد سيدي عبد الرحيم القناوي.. عبق التاريخ وروحانية المكان
3 أيام
0 min read
كتب: مهند فيصل
في قلب مدينة قنا، وعلى ضفاف التاريخ، يقف مسجد سيدي عبد الرحيم القناوي شامخًا، شاهدًا على عصور من الإيمان والتصوف، ومقصدًا لآلاف الزائرين الذين يفدون إليه من كل حدب وصوب، طلبًا للبركة واستحضارًا لروح ولي من أولياء الله الصالحين، الذي أصبح رمزًا دينيًا وثقافيًا لصعيد مصر.
أكثر من 8 قرون من الروحانية
يعود تاريخ تأسيس المسجد إلى عام 1136م، في عهد الدولة الأيوبية، حيث قام الأمير إسماعيل بن محمد الهواري، المعروف بـ”صومع”، بإنشائه تكريمًا للإمام عبد الرحيم القناوي.
ومع مرور الزمن، شهد المسجد عدة توسعات، أهمها تلك التي جرت على يد الأمير همام بن يوسف الهواري، أمير الصعيد، كما نال عناية خاصة في عهد الملك فاروق، الذي أمر بإعادة بنائه عام 1948م، ليخرج في صورته الحالية.
تحفة معمارية بطراز أندلسي
يمثل المسجد نموذجًا فريدًا للعمارة الإسلامية ذات الطابع الأندلسي، إذ يتكون من صحن داخلي مربع مغطى بسقف تتوسطه “شخشيخة”، تتخللها قبة صغيرة تضيء المكان بنور طبيعي. يحيط بالصحن أربعة إيوانات، أهمها إيوان القبلة من الجهة الشرقية.
أما المدخل الرئيسي، فيقع في الجهة الجنوبية، تعلوه مظلة ذات أعمدة من الرخام، وتجاوره مئذنة مهيبة شاهقة الارتفاع، تعكس عظمة العمارة الإسلامية في تلك الحقبة.
ويضم المسجد ضريح الإمام القناوي، الواقع خلف الإيوان الشمالي، في غرفة مربعة تعلوها قبة خضراء، تمثل قلب المسجد النابض، حيث يحرص الزوار على زيارته والدعاء بجواره.
المساحة والتوسعات
تبلغ المساحة الأصلية للمسجد نحو 1250 مترًا مربعًا، ولكن بفضل أعمال التطوير والتوسعة، ارتفعت مساحة الصلاة إلى حوالي 2058 مترًا مربعًا، في حين تصل المساحة الكلية للمجمع إلى ما يقارب 12,259 مترًا مربعًا، أي ما يعادل ثلاثة أفدنة، مما يجعله من أضخم المساجد في صعيد مصر.
الإمام عبد الرحيم القناوي.. سليل آل البيت
يعود نسب عبد الرحيم بن أحمد بن حجونإلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، ووُلد في مدينة ترغاي بإقليم سبتة في المغرب عام 521 هـ / 1127م، وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وبعد أن تلقى العلم في بلاد المغرب، انتقل إلى مصر واستقر في قنا، حيث حظي بمكانة روحية مرموقة، وعُيّن شيخًا للمدينة، واشتهر بزهده وكراماته، حتى أصبح يُعرف بـ”القناوي”، نسبةً إلى المدينة التي أحبها واحتضنته.
المولد السنوي.. موسم للبهجة والروحانية
لا يكتمل المشهد دون الحديث عن مولد سيدي عبد الرحيم القناوي، الذي يُعد من أكبر المواسم الدينية في جنوب مصر؛ حيث يُقام الاحتفال سنويًا في شهر شعبان، ويستمر لأكثر من أسبوعين، يتوافد خلالهما الآلاف من الزوار من مختلف المحافظات، ويتحول محيط المسجد إلى ساحة احتفالية كبرى، تتخللها حلقات الذكر، والمدائح النبوية، والموالد الشعبية، إلى جانب الأسواق والمظاهر الاحتفالية التراثية.
مركز اجتماعي وثقافي
إلى جانب دوره الديني، يلعب المسجد دورًا اجتماعيًا مهمًا، حيث يستضيف جلسات الصلح بين العائلات والقبائل، ويُستخدم كمركز لتعليم القرآن والفقه، وتنظيم الندوات الدينية والثقافية، مما يجعله جزءًا أساسيًا من النسيج المجتمعي في قنا.
أعمال التطوير والتجديد
شهد المسجد مؤخرًا حملة تطوير شاملة، شملت تجديد الواجهات، وتحسين الإضاءة، وتشجير الساحات، وتوسيع الأماكن المخصصة للوضوء والصلاة، استعدادًا لاستقبال الزوار المتزايدين، خصوصًا خلال المناسبات الدينية.
وفي هذا السياق، يقول الدكتور محمد محمود عبد الرازق، شيخ المسجد وخطيبه إن مسجد سيدي عبد الرحيم القناوي ليس مجرد بناء عتيق، بل هو مدرسة متكاملة للتصوف والعلم،وملاذ روحي لأهل قنا وزائريها، نرى فيه مزيجًا نادرًا من التاريخ والروح، ويكفي أن ترى دموع الزائرين لتدرك مكانته في القلوب.
وأكد الدكتور حجازي فارس، الإمام والخطيب بالمسجد على أن هذا المسجد هو نبض قنا، لا تكتمل هوية المدينة إلا بوجوده؛ فنحن لا نخدم فقط المصلين، بل نرعى رسالة، ونصون تراثًا، ونفتح أبوابًا للمعرفة والرحمة، فما يجري هنا ليس مجرد شعائر، بل حياة نابضة بالإيمان والمحبة.
ويظل مسجد سيدي عبد الرحيم القناوي أكثر من مجرد مكان عبادة؛ فهو رمز للهوية الروحية والتاريخية لمحافظة قنا، وعنوان للأصالة والروحانية التي لا تزال تنبض في شوارع الصعيد. في كل زاوية منه، قصة، وفي كل ركن ذكرى، وفي كل زيارة دعاء لا يُرد.