السِيناريو الْآخَرُ :أَمَّا السَّفِينَةُ ، وَأَمَّا الْغُلَامُ ، وَأَمَّا الْجِدَارُ

د. عادل اليماني
كانَ خرقُ السَّفِينَةِ ، قمةَ المعروفِ ،
وكانَ قتلُ الْغُلَامِ ، قمةَ الرحمةِ ،
وكانَ بناءُ الْجِدَارِ ، قمةَ الوفاءِ ..
أمورٌ ظاهرُها القسوةُ ، وباطنُها الرحمةُ ، في أسمي صورِها ، وأعظمِ معانيها .
هَذِهِ النماذجُ التي ساقتها سورةُ الكهفِ ، تلكَ السورةُ البديعةُ ، المُعلمةُ ، المرشدةُ ، تؤكدُ علي الحقيقةِ الراسخة : وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ..
غُلَامُ سُورةِ الكهفِ الأشهرُ ، قُتِلَ صَبياً ! عاشَ أبواه وماتا ، حزينين مَكلومين علي فقدِه ، دونَ أنْ يعلما ، لماذا ؟ ولما رفعَ اللهُ بَعضاً من الحُجُبِ ، كانَ التفسيرُ :
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْراً .
الغُلامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ ، طُبِعَ يَوْم طُبِعَ كافِراً ، وكانَ سَيُوقِعُ أبويه فى الطُغيانِ والكفرِ ، لشدةِ محبتِهما له ، وحرصِهما على إرضائِه .
فكانَ موتُه خَيراً للجميعِ ، هو لم يصلْ للكُفرِ ، وهما عاشا وماتا مؤمنين .
وكذلكَ ، السفينةُ تُخْرَقُ ، لتنجوَ من الملكِ الظالمِ ، والجدارُ يُقامُ ، لحمايةِ ثروةِ اليتيمين ، ابني الرجلِ الصالحِ ، من القومِ اللئامِ ..
إنَّ هَذَا الكونَ الفسيحَ ، لم تُبنْ أحكامُه على ( ظواهرِِ ) الأمورِ ، بل على ( الدوافعِ الحقيقيةِ ) في الأمرِ نفسِه . الظاهرُ يُحرمُ التصرفَ في أموالِ الناسِ ، وفي أرواحِهم ، وفي ممتلكاتِهم ، من غيرِ سببٍ واضحٍ ، يُبيحُ ذلكَ التصرفَ ؛ لأنَّ خرقَ السفينةِ ، اعتداءٌ علي ممتلكاتِ الناسِ ، وقتلَ الغُلامِ ، تقويضٌ لنفسٍ معصومةٍ ، والإقدامَ على إقامةِ الجدارِ المائلِ ، تحملٌ للتعبِ والمشقةِ ، من غيرِ نفعٍ .
وفي هَذِهِ المسائلِ الثلاثةِ ، منحَ اللهُ ، عبدَه الصالحَ ( الخَضِرَ) قوةً عقليةً وكشفيةً ، مكنتْه من معرفةِ بواطنِ الأمورِ ، والاطلاعِ على حقائقِ الأشياء وأسرارِها ، فيما كانَ علمُ ( موسي ) مبنياً علي الأمرِ الظاهرِ ، ولذا فاقتْ مكانتُه في العلمِ (وَعَلَّمْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) مكانةَ موسى النبي ، عليه السلامُ ، الذي طلبَ منه صراحةً ؛ احتراماً لهَذِهِ القُدراتِ الخاصةِ ، التي امتنَ اللهُ تَعَاَلي عليه بها ، دونَ غيرِه : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ..
وكلمةُ السرِ ، أنَّ هَذِهِ المسائلَ كُلَّها ، بُنيتْ على حكمةٍ واحدةٍ ، مؤداها : عندَما يتعارضُ الضرران ، يجبُ تحملُ الأدنى ، لدفعِ الأعلى ؛ وهَذَا هو الأصلُ المعتبرُ في التأويلِ ، فكسرُ جزءٍ من السفينةِ ، أهونُ كثيراً من مصادرتِها ، وقتلُ الغلامِ ، أرحمُ به ، وبوالديه ، من الطُغيانِ والكُفْرِ المنتَظَرين ، والتنازلُ عن الأجرِ ، في بناءِ الجدارِ للأيتامِ ، في القريةِ البخيلةِ اللئيمةِ ، قليلٌ جداً أمامَ المحافظةِ علي الكنزِ ، لابني الرجلِ الصالحِ ، إكراماً وتقديراً ..
كم بكتْ قلوبُنا ، وضاقتْ صدورُنا ، حتي أصبحنا وكأنَّنا نتنفسُ من خُرمِ إبرة ! لأنَّنا فقدنا أملاً ، أو ضيعنا حُلْمٌاً ، فهَذَا تزوجَ بغيرِ محبوبتِه ، وهَذِهِ لم تتزوجْ أصلاً ،
هؤلاءِ لم يرزقوا بالولد ، وأولئكَ عاشوا وماتوا في ضيقٍ من العيشِ ، رغمَ سعيهم وجدِهم .
هَذَا أتته الدُنيا سهلةً ميسرةً ، وذاكَ لم تأتِه علي الإطلاقِ .
ماذا بكِ أيتُّها الحياةُ ، كيفَ تبدو حساباتُك غريبةً هكذا ؟!
هي قطعاً ليستْ حساباتِ الحياةِ ، فالحياةُ نفسُها مأمورةٌ ، بل هي حساباتُ ربِّ الحياةِ ، ربِ كُلِّ شئٍّ ، الذي أحاطَ علمُه بكُلِّ شئٍّ ، وفاقَ لُطفُه كُلَّ شئٍّ :
وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ ..
يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ ..
يقولُ الإمامُ ابنُ عطاءِ اللهِ السكندريِّ ، رَحِمَه اللهُ : رُبَّما أَعْطاكَ فَمَنَعَكَ ، وَرُبَّما مَنَعَكَ فأَعْطاكَ .
إنْ فَتح لك بابَ الفَهم في المنعِ ، عادَ المنعُ عَينَ العطاءِ . إنَّما يُؤلِمُكَ المَنْعُ ، لِعَدَمِ فَهْمِكَ عَنِ اللهِ فيهِ . رُبَّما فَتَحَ لَكَ بابَ الطّاعَةِ ، وَما فَتَحَ لَكَ بابَ القَبولِ . وَرُبَّما قَضى عَلَيْكَ بِالذَّنْبِ ، فَكانَ سَبَبَاً في الوُصولِ . مَعْصِيَةٌ أَورَثَتْ ذُلاً وافْتِقاراً ، خَيرٌ مِنْ طاعَةٍ أوْرَثَتْ عِزّاً وَاسْتِكْباراً .
في القُرآنِ الكريمِ ، سورةٌ مُذْهلةٌ ، هي سورةُ يوسف ، تسيرُ بوتيرةٍ إبداعيةٍ ، غايةٍ في التشويقِ ، مفادُها أنَّ الشئَّ الجميلَ ، قد تكونُ نهايتُه مؤلمةً ، والعكسَ بالعكسِ ! فيوسفُ أبوه يُحبُه ( شئٌ جميلٌ ) فتكونُ نتيجةُ هَذَا الحُبِ ، أنْ يُلقى في البئرِ !
و الإلقاءُ في البئرِ ( شئٌ مؤلمٌ ) فتكونُ نتيجتُه ، أنْ يُكرَمَ في بيتِ العزيزِ ! و الإكرامُ في بيتِ العزيزِ ( شئٌ جميلٌ ) فتكونُ نهايتُه ، أنْ يدخلَ السجنَ ! ثم دخولُ السجنِ ( شئٌ مؤلمٌ ) فتكونُ نتيجتُه ، أنْ يُصبحَ عزيزَ مصرَ !
سورةُ تُحاربُ اليأسَ ، وتدفعُ للتفاؤلِ ، ما قرأَها محزونٌ ، إلا سُرِّي عنه .
ففيها تولى اللهُ أمرَ يوسفَ ، فأحوجَ القافلةَ في الصحراءِ للماءِ ،لينتشلَه من البئرِ ! ثم أحوجَ عزيزَ مصرَ للأولادِ ، ليتبناه !
ثم أحوجَ الملكَ لتفسيرِ الرؤيا ، ليُخرجَه من السجنِ ، ثم أحوجَ مصرَ كُلَّها للطعامِ ، ليُصبحَ عزيزَ مصرَ .
سورةٌ تُعلمُنا أنَّ المريضَ سيُشفى ، والغائبَ سيعودُ ، والمحزونَ سيفرحُ ، والكربَ سُيرفعُ ، والهمَ سيزولُ ، بإذنِه سُبحانَه .
لو كُشِفَتْ حُجُبُ الغيبِ ، لما اختارَ الإنسانُ ، إلا ما اختارَه اللهُ له ، ولو علِمنا ( السِيناريو الْآخَرَ ) لسجدنا للهِ شُكراً ، علي هَذَا الواقعِ الذي نحياه .
اللهُ قد لا يُعطي الإنسانَ ما يطلبُه ، لكنَّه يقيناً ، يُعطيه ما يحتاجُه ويُصلحُه . هَذَا ، الفقرُ يُبقيه صالحاً ، وذاكَ ، الفقرُ يُفسدُه ، فيُغني الثاني ، ويُبْقي الأولَ علي حالِه ، وقد تأخذُ السيناريوهاتُ أشكالاً وأنواعاً ، أشدَ دقةً ، وأكثرَ عبقريةً .
فِي اَلْحَدِيثِ اَلْقُدْسِيِّ : إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ اَلْغِنَى ، فَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ ، وَ إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ اَلْفَقْرُ ، فَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ ..
إنَّ البحرَ نفسَه ، الذي نجي الرضيعَ موسي ، أغرقَ فرعونَ المُتجبرَ ومعاونيه !
وكانتْ أجملُ أيامِ إبراهيمَ ، عليه السلامُ ، تلكَ التي قضاها في النارِ !
والرضيعُ ينطِقُ في المهدِ ، ليرفعَ الظُلمَ ، ويدرأَ الشُبهةَ ، ويضحضَ التُهمةَ ، عن والدتِه التقيةِ النقيةِ ، السيدةِ مريمَ العذراء .
في عام 1993 كانَ منتخبُ زامبيا الإفريقي ، منتخباً قوياً ، و في صفوفِه لاعبٌ محترفٌ ، ذائعُ الصِيتِ ، اسمُه كالوشا بواليا.
اختلفَ كالوشا مع مُدربِ الفريقِ ، الذي استبعدَه من مباراةٍ مهمةٍ للمنتخبِ ، خارجَ البلادِ ، و عجزَ الجميعُ عن إقناعِ المدربِ بإشراكِه . قالَ كالوشا : لقد بَكيتُ بحُرقةٍ ، واعتصرَ قلبي حُزناً ، ثُم طلبوا منيَّ السفرَ للحاقِ بالفريقِ ، فعزتْ عليَّ نفسي ، فرفضتُ . الطائرةُ التي سافرَ بها المنتخبُ تحطمتْ ، و ماتَ كلُّ مَنْ فيها ، 30 راكباً ، فيهم 18 لاعباً ، بالإضافةِ لمدربِ المنتخبِ ، والجهازِ الفني ، إلا كالوشا بطبيعةِ الحالِ ، الذي كانَ يري بالأمسِ القريبِ ، أنَّ الدُنيا أغلقتْ أبوابَها في وجهِهِ ، وضاقتْ عليه بما رَحُبتْ ، عاشَ و نجا ! ليُصبحَ كالوشا لاحقاً ، مدرباً لمنتخبِ الشبابِ ، وبعدَها بنحو ثلاثينَ عاماً ، وزيراً للشبابِ و الرياضةِ في بلادِه !
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ..
هَذِهِ خُلاصةُ القولِ ، وهَذَا فصلُ الخطابِ ، فلا تيأسْ ، ولا تجزعْ ، وإنْ ضاقتْ بكَ الدُنيا ، فلا تقلْ : إنَّ هميَّ كبيرٌ ، بل قُلٍ : يا همُّ إنَّ ربيَّ رحيمٌ ..
إذا رَضِتَ بما قسمَ اللهُ لكَ ، فلنْ تكونَ فقط أغني الناسِ ، بل أسعدَهم أيضاً ، فاللهُ جلتْ قُدرتُه ، حقاً وصدقاً ، هو وحدَه الذي ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) ..
نقلا عن الأهرام