مشروع بلا روح… لماذا تراجع الأزوري إلى هذا المستوى؟
3 أسابيع
1 min read
كتب:عبدالرحمن ابراهيم
في أيام قليلة فقط، كشفت كرة القدم حجم الألم الذي ظل مختبئًا خلف صمتٍ طال أمده في إيطاليا، البلد الذي طالما قدم للعالم نموذج الدفاع الحديدي والروح التي لا تنكسر. لم يعد الصمت قادرًا على إخفاء الجرح، فالجمهور الإيطالي اليوم لا يعبر عن غضب بقدر ما يعيش حالة من الألم العميق؛ ألمٌ نابع من رؤية منتخبٍ يتداعى أمام أعينهم، ويتحول تدريجيًا إلى ظل باهت لفريق كان يسيطر على كرة القارة بلا منازع.
الهزيمة أمام النرويج لم تكن سطرًا جديدًا في سجل الخسائر، بل لحظة انكسار حقيقي. كانت أشبه بسقوط تمثال أسطوري في قلب ساحة عامة، يسمع الجميع دوي انهياره دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب.
أربعة أهداف كاملة في قلب “السان سيرو”، الملعب الذي كان يومًا مصدر رعب لأعتى المنتخبات، تحولت إلى شهادة على انهيار منظومة كاملة؛ منتخب يدخل الملعب مدججًا بالشك، فاقدًا للهيبة، عاجزًا حتى عن إظهار روح المنافسة.
كان المشهد صادمًا، فريق بلا شخصية، جمهور مذهول، وإعلام عاجز عن إيجاد ذريعة واحدة تُخفف وقع ما حدث. كل ما حاولت الكرة الإيطالية إخفاءه لسنوات خرج دفعة واحدة إلى العلن. لم تعد المشكلة مرتبطة بإرهاق لاعبين أو ضغط مباريات أو سوء حظ، بل باتت أزمة أعمق من مجرد ليلة سيئة.
الهزيمة لم تكن نتيجة 4-1 فحسب، بل صفعة حقيقية هزت ما تبقى من الثقة، وأسقطت جدران الوهم التي احتمت خلفها كرة القدم الإيطالية. جمهور يعيش على ذكريات كانافارو وبوفون وتوتي وبيرلو وجد نفسه اليوم أمام فريق آخر لا يشبه تلك القصص ولا يقترب من تلك الروح.
قبل أشهر، تلقت إيطاليا ثلاثية أمام النرويج في الذهاب فسارعت الصحافة إلى تعليق الأخطاء على ضغط المباريات والإصابات وسوء التوفيق. لكن بعد رباعية الإياب، سقطت كل الأقنعة؛ لم يعد هناك مبرر ولا شماعة ولا أي مساحة للإنكار. السقوط أصبح واقعًا، والحديث عن سوء الحظ لم يعد منطقيًا. لم يشهد المنتخب الإيطالي نسخة أضعف من هذه منذ عقود.
الأزمة لا تتعلق بالمدرب فقط، ولا باللاعبين وحدهم، بل بمشروع رياضي كامل تآكل تدريجيًا. لسنوات طويلة، ظلت إيطاليا تبني حاضرها على أمجاد 1982 و2006، وعلى أسماء الأساطير التي صنعت مجدها، مالديني، بيرلو، دل بييرو، كانافارو… لكن الماضي، مهما كان مشرفًا، لا يبني مستقبلًا، والتاريخ وحده لا يكفي للتأهل إلى البطولات. في الوقت الذي طوّرت فيه معظم المنتخبات منظوماتها وبنت أكاديميات واستثمرت في شبابها، بقيت الكرة الإيطالية أسيرة ذاكرة طويلة تحاول أن تمنح نفسها عزاءً ببطولات انتهى زمنها.
تصريحات جاتوزو التي طالب فيها بمنح أوروبا مقاعد إضافية على حساب أفريقيا بدعوى أن إيطاليا “يجب أن تشارك دائمًا”، لم تثر نقاشًا بقدر ما أثارت سخرية المتابعين. تصريح يعكس عقلية تبحث عن امتيازات تاريخية بدلًا من مواجهة الواقع، ليأتي السقوط برباعية بعدها ويكشف أن المشكلة ليست في القارة التي تحصل على مقاعد، بل في المنتخب الذي فقد بريقه.
إيطاليا اليوم ليست إيطاليا التي عرفها العالم. لا يوجد مالديني يفرض الإيقاع من الخلف، ولا بيرلو يصنع العبقرية من الوسط، ولا دل بييرو يقلب مجريات المباريات. فقط ثلاثة أسماء ما زالت تمثل شيئًا من الهيبة: دوناروما، باستوني، وباريلا، بينما بقية الجيل تبدو عادية للغاية مقارنة بتاريخ بلد صنع مدرسة كاملة في كرة القدم.
منذ التتويج بكأس العالم 2006، لم يعرف المنتخب طريق الاستقرار: خروج مخيب في 2010، ثم 2014، ثم غياب عن كأس العالم 2018 و2022، وها هو اليوم يقترب من كابوس الغياب عن مونديال 2026. حتى يورو 2021 الذي فاز به مانشيني لم يكن بداية مشروع كما اعتقد البعض، بل مجرد ومضة قصيرة في مسار طويل من التراجع.
الكالتشيو نفسه يعكس الأزمة بوضوح: استثمار ضعيف، غياب الأكاديميات، هروب المواهب إلى الخارج، تراجع القدرة المالية، وضعف الحضور الأوروبي. وعندما يهبط مستوى الدوري، يهبط المنتخب تلقائيًا.
الجمهور لم يعد يطلب البطولات، بل يطلب فقط استعادة الهوية؛ يريد منتخبًا يعرف كيف يدافع عن اسمه قبل أن يدافع عن شباكه. إيطاليا تقف اليوم أمام مفترق طرق: إما ثورة حقيقية تُعيد بناء المشروع من جذوره، وإما استمرار السقوط حتى تتحوّل إلى مجرد اسم كبير يعيش على الذكريات فقط. وربما يكون الملحق المقبل هو الفرصة الأخيرة، ليس للتأهل فقط، بل لإنقاذ ما تبقى من كرة القدم الإيطالية قبل أن يتحول الألم إلى عادة، والخسارة إلى قدر دائم.
اليوم، تبدو إيطاليا وكأنها في اللحظات الأولى بعد وقوع زلزال كبير؛ صمتٌ ثقيل، وجوه مذهولة، وأنفاس متقطعة، ومحاولة يائسة لفهم كيف وصل المنتخب الذي كان يومًا مرعبًا إلى هذا الحد من الانكسار.
لم تعد الأزمة مجرد هزيمة، بل صدمة هوية كاملة؛ صدمة تجعل المشجع يشعر أنه يحدق في منتخب لا يعرفه، منتخب فقد طريقه وفقد قدرته على إخفاء ضعفه. ولأول مرة منذ عقود، يدرك الإيطاليون أن الاسم وحده لم يعد كافيًا، وأن الهيبة التي بُنيت خلال قرن كامل أصبحت اليوم مهددة بالذوبان