بلاش تنظير!!

بقلم: محمدعبدالله
عندما كنت في مقتبل حياتي المهنية منذ 32 عاما ، كنت أواظب على حضور جلسات وتجمعات كبار وشيوخ المهنة حتى أغترف من فيض خبراتهم المهنية والإنسانية ما يسد رمقي المهني ، فمن ندوات نقابة الصحفيين في مبناها القديم – مكان المبنى الحالي- إلى قاعات الندوات في أتيليه القاهرة وحزب التجمع والناصري وزهرة البستان ومقاهي القاهرة وندوات معرض الكتاب ، وكان هناك مصطلح يصدم أذني في كثير من هذه ” القعدات” وهو “كفاية تنظير” أو يخرج أحد الحضور صارخا مخاطبا زميله ” وحياة أبوك بلاش تنظير”، ومع الوقت أصبح لهذه الكلمة مدلول سلبي لدي وارتبط لاحقا بفكرة المناقشة والجدل وارتبكت لفترة قصيرة حيث كنت قد درست التاريخ والفلسفة ومحاورات أفلاطون ومحاورات السوفسطائيين وقرأت الجدلية الهيجلية (الديالكتيك) وسألت نفسي هل “التنظير” رذيلة أو رجس من عمل الشيطان ؟!
ومع مرور الوقت والعمل بالقسم الدبلوماسي ثم محررا للشؤون الدولية ومداوما على حضور ندوات مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام “العريقة” والمواظبة على قراءة المجلات الأمريكية المتخصصة مثل( فورين بوليسي Foreign Policy) و ( فورين أفيرز Foreign Affairs) بالإضافة إلى الصحف اليومية الأمريكية والبريطانية بالمركز الثقافي الأمريكي بجاردن سيتي والمجلس الثقافي البريطاني لأن شراء هذه المجلات والصحف كان شبه مستحيل وقتها .
وشيئا فشيئا بدأت أتعرف على مطلح ( مراكز التفكير Think Tanks) وطريقة عملها ونتائجها وتأثيرها على العالم وبدأت أعي أهمية قراءة الإنتاج الفكري لإدوارد سعيد ومواجهته للمستشرقين الغربيين .
و بدأت أقرأ مقالات وكتب المستشرق المهم “برنارد لويس” و المؤرخ والفيلسوف الألماني “ليو شتراوس” ونظريات “فرانسيس فوكوياما ” و أطروحات ” صامويل هنتنجتون” ..وغيرهم الكثير وبعدها أيقنت أن العالم العربي يفتقر إلى “التنظير” وطرح الأفكار وأن مشكلتنا ليست في الإمكانات المادية ولكنها في عدم استيعاب أهمية “النظير” أو “مراكز الفكر” .
وهذه المراكز ليست من قبيل الرفاهية فما نعانيه الآن هو نتاج لهذه المراكز أهمها مشروعات ” الشرق الأوسط الكبير” و” خرائط الدم” ومشروعات غزو العراق وقبلها أفغانستان وتقسيم السودان وغيرها الكثير من هذه المخططات حول العالم .
ويرى مؤرّخ مراكز التفكير “بيتر سنجر” أن دور مركز التفكير هو أن يكون صلة الوصل بين عالم البحث والدراسة وبين عالَم السياسة وأن يتحلّى بالصرامة الأكاديمية في دراسة القضايا والمشكلات العصرية. أما “جيمس ماك جان” مدير برنامج مركز التفكير والمجتمع المدني في جامعة بنسلفانيا فيرى أن مراكز التفكير تسعى إلى إعداد الأجندات السياسية عبر مدّ الجسور بين المعرفة والسلطة .
ويرى المتخصصون في تاريخ مراكز التفكير أن أقدمها في العصر الحديث هو مؤسّسة “فابيان” التي تأسّست في لندن العام 1884 ولعبت دوراً مهماً في الإصلاحات الاجتماعية. لكنهم يتفقون على أن أول مركز تفكير حديث هو “بروكنجز إنستيتيوشن” الأميركي الذي تأسّس العام 1916.
ومن جانبها تصدر جامعة بنسلفانيا الأميركية تقريراً سنوياً عن مراكز الأبحاث حول العالم، يعدّ، حسب بعض الباحثين، المرجع الدولي الأهم، وفقاً لتقريرها عن عام 2018، هناك قرابة 8160 مركز أبحاث في العالم، تستحوذ أوروبا على الجزء الأكبر منها، بواقع 2219، في حين يوجد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 507 مراكز فقط!
وتهتم مراكز الفكر بالقضايا الجيوسياسية للبلدان العربية ، لكن مقار معظمها خارج البلدان العربية وغالباً ما تستبدل كلمة العربية في برامجها السياسية بمصطلح “الشرق الأوسط” حرصاً منها على أن تشمل التسمية إسرائيل، ومعظمها يضع مصالح إسرائيل في المقام الأول.
ويقدّر تقرير جامعة بنسلفانيا أن عدد مراكز التفكير التي تهتم بقضايا الشرق الأوسط الجيوسياسية تزيد على 200 مركز، 52 مركزاً منها في إسرائيل، تليها إيران وتركيا ومصر التي يتراوح عدد مراكز الفكر في كلّ منها بين 20 و 30 مركزاً و في المغرب 9 مراكز وفي تونس 9 مراكز وفي الجزائر 4 مراكز.
ويتمتع بعض مراكز الفكر بنفوذ بل بسطوة على مراكز القرار السياسي فبعد الحرب العالمية الثانية جاءت خطة مارشال من بروكنجز إنستيتيوشن، وكانت الحرب على العراق بتحريض من بعض مراكز الفكر في الولايات المتّحدة.
ومهما ادَّعت مراكز التفكير الحياد والموضوعية فإنها تبقى خاضعة لميول أيديولوجية واضحة وتسعى إلى خدمة مصالح سياسية واقتصادية معيّنة؛ فأكثر من 60% من مساعدي وزراء خارجية الولايات المتحدة جاؤوا من مراكز تفكير وهي الجدلية التي ناقشها “نعوم تشومسكي” و”إدوارد هيرمان” في كتابيهما صناعة التوافق.
نحتاج إذن إلى “التنظير” الحقيقي لخدمة الرؤية العربية السياسية والحضارية ، لخلق “نظرية” ، تحميها من الاستهداف الخارجي والتسطيح الداخلي.