# Tags
#ثقافة وفن

حين غدر البحر بالإمبراطورية.. وسقط مجد النمسا في الأعماق

 

كتب:عبدالرحمن ابراهيم

أربعة عشر دقيقة فقط كانت كفيلة بتحويل بارجة عملاقة إلى حطام غارق، وإغراق أكثر من 300 جندي في أعماق البحر الأدرياتيكي. إنها قصة البارجة “فيريبوس يونيتيس”، إحدى أفخم سفن الأسطول البحري للإمبراطورية النمساوية المجرية، التي انتهت حياتها بطريقة مأساوية لم يتوقعها أحد.

بدأت الحكاية مع اغتيال ولي عهد النمسا “فرانز فرديناند” في سراييفو عام 1914، الحدث الذي فجّر فتيل الحرب العالمية الأولى. أعلنت النمسا المجر الحرب على صربيا، لتشتعل أوروبا كلها في نزاع شامل، بعد أن دخلت روسيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا على خط المواجهة.

ورغم أن فيينا كانت تطمح إلى نصر سريع على صربيا، فإن الواقع كان مختلفًا. ففي معارك سير وكولوبارا، مُني الجيش النمساوي بخسائر فادحة، واضطر إلى الانسحاب. ومع توالي الهزائم على الجبهتين الروسية والإيطالية، بدأت الإمبراطورية تتهاوى من الداخل، وسط مجاعة خانقة ونقص حاد في المؤن والذخيرة.

بينما كانت الجيوش تعاني على اليابسة، عاشت البحرية النمساوية المجرية عزلة كاملة في البحر الأدرياتيكي، محاصرة بالأساطيل الإيطالية والبريطانية. لم تشارك بارجة “فيريبوس يونيتيس” التي بلغ وزنها 20 ألف طن ومزودة بمدافع هائلة العيار في أي معركة بحرية كبرى، لكنها كانت رمزًا للقوة الإمبراطورية التي تلاشت تدريجيًا مع اقتراب نهاية الحرب.

ومع إدراك فيينا أن الهزيمة باتت حتمية، قررت تسليم أسطولها البحري إلى دولة السلوفينيين والكروات والصرب “التي ستصبح لاحقًا يوغوسلافيا” لتفادي وقوعه في أيدي الحلفاء.

في ليلة 31 أكتوبر 1918، وبعد ساعات فقط من تسليم البارجة رسميًا، تسلل ضابطان من البحرية الإيطالية إلى ميناء بولا حيث كانت “فيريبوس يونيتيس” راسية. حملا شحنتين متفجرتين ووضعاهما تحت السفينة وفي قاعدة الميناء، على أن تنفجرا عند الساعة السادسة والنصف صباحًا.

لكن القدر كان أكثر قسوة: أُلقي القبض على الضابطين قبل أن يهربا، وأقرا خلال التحقيق بأن المتفجرات معدّة للانفجار في الموعد المحدد.
انتظر الجميع حتى الساعة الموعودة ولم يحدث شيء.

ظنّ القائد الجديد للبارجة جانكو فوكوفيتش أن الإيطاليين كذبوا، فصعد بنفسه على متن السفينة ومعه نحو  400 جندي لتفقدها.

عند الساعة السادسة وأربعة وأربعين دقيقة بعد تأخير دام 14 دقيقة فقط دوى الانفجار. تمزقت البارجة العملاقة من قلبها، وانقلبت على جانبها، وغرقت في دقائق معدودة، لتدفن معها أكثر من  300 جندي وضابط، بينهم القائد فوكوفيتش نفسه. كما تسبب الانفجار في تدمير ناقلة عسكرية مجاورة.

بعد نهاية الحرب، عاد الضابطان الإيطاليان إلى بلادهما حيث استُقبلا كأبطال، ونالا أرفع وسام عسكري إيطالي. أما في النمسا، فقد تحولت الحادثة إلى رمز للمرارة والانكسار الذي ختم به الجيش النمساوي المَلكي وجوده البحري للأبد.

وهكذا، لم تُغرق “فيريبوس يونيتيس” في معركة، ولم تُقصف بمدافع، بل انتهت بسبب تأخير بسيط في ساعة الانفجار، كان كافيًا ليحمل مئات الأرواح إلى قاع البحر ويكتب فصلًا مأساويًا في تاريخ الحروب.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *