# Tags
#مقالات رأى

عندما تتجاوز الإعلانات حدود المهنية

د .رشا حجازي  

تُعد الإعلانات التجارية أداةً رئيسة في التواصل الجماهيري، والتأثير في الرأي العام، وهي في جوهرها انعكاسٌ للثقافة والقيم المُجتمعية، غير أن بعض الإعلانات قد تتحول إلى وقودٍ للتفرقة، وبذورٍ للفتنة، عندما تتجاوز حدود اللياقة والمهنية، وتلجأ إلى السخرية والتحريض، خصوصًا في السياقات شديدة الحساسية؛ مثل: “كرة القدم”، التي لم تعد مجرد رياضةٍ؛ بل باتت ساحة للتوترات، والانفعالات، والتعبير عن الغضب الشعبي.

وفي هذا السياق، أثار إعلانٌ لإحدى الشركات جدلًا واسعًا، بعدما حمل إيحاءات ساخرة، تستهزئ بجماهير أحد أكبر الأندية المصرية، وذهب إلى حد تشبيههم بـ “المجانين”؛ مُتجاوزًا بذلك كل الخطوط الحمراء الأخلاقية والمُجتمعية، وما أريد التعبير عنه خلال السطور ما هو إلا توصيفٌ لمشهدٍ أقل ما يُقال عنه إنه غير مسؤولٍ، وغير أخلاقيٍ.

الإعلان الذي أطلقته الشركة، وجّه رسائل ضمنية وساخرة من جمهور نادٍ بعينه؛ مُستخدمًا رموزًا وإيحاءات واضحة تشي بالاستهزاء، والتقليل من شأنه، ووصفه بالجنون وعدم الاتزان، في مُقابل تمجيد جمهور نادٍ آخر، هذه الرسالة– على بساطتها الظاهرة– تخالف أهم القيم الأخلاقية في صناعة الإعلان؛ وهي: “الحياد، الاحترام، وعدم التحريض”.

فإن توظيف السخرية على أساس الانتماء الرياضي، يحمل في طياته بذور الفتنة والانقسام، ويؤجج مشاعر الكراهية بين جماهير الكرة، الذين تتجاوز أعدادهم الملايين، حين يُشَبَّه جمهور نادٍ ما بالمجانين، ويُسْتَهْزَأ من إخلاصهم لفريقهم، فإن هذا لا يُعد فقط إساءة لشريحة واسعة من المجتمع؛ بل هو تحريضٌ على ازدراء الآخر المُختلف رياضيًا، وتشجيعٌ للسخرية، والتهكم، كأسلوبٍ للتواصل.

الإعلان الجيد مسؤولٌ اجتماعيٌ، ويجب أن يكون أداة للبناء، لا للهدم، ومن غير المقبول أن تستغل شركة كبرى قاعدتها الجماهيرية؛ لتكريس خطابًا ساخرًا، لا يراعي البُعد الثقافي والنفسي للجماهير، ولا يحترم حالة التوتر الرياضي في البلاد، لقد تجاهل صناع الإعلان القاعدة الذهبية في التسويق الأخلاقي: “لا تؤذِ من تسعى لكسبه زبونًا.”

إهانة العملاء، وخيانة الثقة، من المفارقات أن الإعلان موضع الجدل قد تم إنتاجه من قِبَّل شركة يعتمد على خدماتها ملايين العملاء من مُشجعي النادي الذي وُجهت له الإهانة. وفي هذه الحالة، تجاوز الإعلان الإساءة الأخلاقية؛ ليتحول إلى إهانة مُباشرة للعملاء أنفسهم، لا توجد شركة ناجحة تستغني عن رضا عملائها، والأذكى أن تحتضن كل الفئات والشرائح بلا تمييز، لكن ما حدث في الإعلان الأخير هو نقيضٌ ذلك تمامًا، فقد تم استبعاد؛ بل والاستهزاء، بفئة واسعة من العملاء الذين يحملون ولاءهم لنادٍ رياضيٍ مُعينٍ، وكأن الشركة تقول لهم: “أنتم غير مرغوب بكم.”

العلامة التجارية تُبنى على الثقة المتبادلة، وما قامت به الشركة هو تقويض لهذه الثقة، فعندما يرى العميل أن الشركة التي يدفع لها أمواله تسخر من انتمائه، فإنه يشعر بالخيانة، وتتحول العلاقة التجارية إلى صراعٍ نفسي، وربما دعوات للمقاطعة، وهو ما بدأ بالفعل على مواقع التواصل الاجتماعي.

التوقيت الخاطئ سكب البنزين على نارٍ مُشتعلة، أخطر ما في هذا الإعلان، لم يكن فقط مضمونه؛ بل توقيته؛ حيث جاء في وقتٍ يغلي فيه الشارع الكروي المصري غضبًا، نتيجة قرارات تحكيمية اعتُبرت “فاضحة” لصالح نادٍ بعينه، على حساب المنافسة النزيهة، كذلك بسبب تطبيقٍ انتقائيٍ للقوانين الرياضية، جعلت مشاعر الظلم والانقسام تطغى على المشهد الرياضي، وجاء الإعلان كمن يصب الزيت على النار، ويزيد من مشاعر الغبن والانقسام، وهو ما يجعله غير مسؤولٍ على الإطلاق من ناحية التوقيت.

كما أن السياق الاجتماعي حرج للغاية، فالجماهير لم تعد تتابع الرياضة باعتبارها مجرد ترفيهٍ؛ بل باتت تتعامل معها كنافذة للتعبير عن مشاعرها. بالتالي، فإن أي إشارة استفزازية– ولو على سبيل الدعاية– يمكن أن تتحول إلى شرارة انفجارٍ شعبيٍ في المُدرجات أو الشوارع.

الإعلانات الساخرة التي تنحاز لطرفٍ دون آخرٍ لا تضر فقط بالذوق العام؛ بل تُفسد المناخ الرياضي برمّته، وتنسف مفاهيم؛ مثل: “الروح الرياضية، والعدالة، والندية”، وهي المبادئ التي يُفترض أن تقوم عليها المُنافسات الرياضية، وعندما تنخرط شركات عملاقة في لعبة الاستفزاز الرياضي، فإنها تخلط بين التسويق والتعصب، وتمنح شرعية للتنمر الجماهيري، في بيئة رياضية هشّة، تتدهور فيها معايير العدالة والتحكيم، فإن مثل هذه الإعلانات تعمّق الشروخ، وتجعل من الرياضة ساحة للتطاحن، لا التنافس الشريف.

ليس من المنطقي أن تُنتج إعلانات تجارية تُستخدم كسلاحٍ في المعارك الجماهيرية، اللاعبون أنفسهم يتأثرون بهذا المناخ العدائي، وتفقد المُنافسة معناها حين يشعر أحد الأندية أن هناك حملة إعلامية مُنظمة ضده، بدعمٍ من كياناتٍ اقتصادية ضخمة.

ومن جانب البُعد الأمني، خطورة اللعب على حافة الفتنة المسألة لا تتوقف عند حدود الإعلان؛ بل تتجاوزها إلى الأمن القومي، في سياقٍ إقليميٍ ودوليٍ مضطربٍ؛ خاصةً أنه من المعروف أن جمهور كرة القدم في مصر يتمتع بطاقة انفعالية هائلة، وقد شهدت البلاد في السنوات الماضية العديد من الحوادث الكروية الدامية، التي راح ضحيتها العشرات، وفي ظل عودة تدريجية للجماهير إلى المدرجات، فإن التحريض الساخر، حتى وإن كان من خلال إعلانٍ تجاريٍ، يُعد قنبلة موقوتة، وفي ظل الأحداث الدولية المُشتعلة، والصراعات على الحدود، فإن أي اضطرابٍ داخليٍ– حتى لو كان رياضيًا– يمثل ثغرة أمنية، يُمكن استغلالها من قِبَّل أطرافٍ معادية، وأي صداماتٍ جماهيرية بسبب إعلانٍ غير مسؤولٍ، قد يتم تضخيمها خارجيًا؛ لتُظهِر الدولة في صورة العاجزة عن إدارة انفعالاتٍ رياضية بسيطة.

المشهد الحالي يستوجب مراجعة جذرية من قبل الشركات والمؤسسات الإعلامية، وإعادة النظر في آليات إنتاج الإعلانات؛ خاصةً في المجالات ذات الحساسية العالية؛ مثل: “الرياضة”، فالشركات مطالبة بأن تعي أنها تُخاطب جمهورًا مُتعدد الانتماءات، وأن جمهور اليوم أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على الرد والمقاطعة، لا مجال بعد اليوم لإعلانات تستقوي على فئة؛ لتحابي أخرى.

الإعلان الذكي هو الذي يزرع البهجة، ويُذكّر بالقيم المُشتركة، لا الذي يستفز، ويستعدي، ويقسم، وبدلًا من السخرية من جمهور نادٍ، كان الأجدى أن تُنتج الشركة إعلانًا يحتفي بجمال التشجيع، وعراقة الفرق، وتاريخ اللعبة، لا بد أن تتحرك الجهات الرقابية على الإعلام والإعلان؛ للحد من مثل هذه التجاوزات، وإلزام الشركات الكبرى بمواثيق شرفٍ إعلانية، تُراعي الحساسية الثقافية والاجتماعية والسياسية، وتمنع الإضرار بالأمن القومي.

لقد تجاوز الإعلان الأخير كل حدود المعقول، ولم يعد مجرد إعلانٍ ساخرٍ؛ بل تحوّل إلى أداة استفزازٍ وتحريضٍ، تهدد بتمزيق النسيج المُجتمعي، وتؤجج الغضب الجماهيري، في لحظة حساسة سياسيًا ورياضيًا.

إن المطلوب اليوم ليس فقط سحب الإعلان والاعتذار العلني؛ بل فتح نقاشًا مُجتمعيًا شاملًا، حول أخلاقيات الإعلان، وضرورة احترام الجماهير بكل انتماءاتهم، وتجريم التمييز الرياضي، والتأكيد على أن التسويق لا يجب أن يكون على حساب الوطن، فالوطن أكبر من نادٍ، وأكبر من إعلانٍ، وأكبر من شركةٍ.

  • أستاذ مُساعد العلاقات العامة والإعلان

 

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *