#مقالات رأى

وداعًا للكاتب المبدع محمد جبريل

سامي المرسي كيوان
وداعًا للكاتب المبدع محمد جبريل،الذي غادر عالمنا في 29 يناير 2025م، تاركًا إرثًا أدبيًا عظيمًا تجاوز الخمسين كتابًا في القصة والرواية.
ولد محمد جبريل في 17 فبراير عام 1938م كان ابن الإسكندرية الوفي شاهدًا على ملامحها، وعايش تفاصيلها، ليحولها إلى لوحات سردية نابضة بالحياة.
تميزت أعماله بالاهتمام بالتاريخ، الفلسفة، والتأمل في التحولات الاجتماعية، ما جعله واحدًا من أبرز كتاب جيله. تأثر منذ طفولته بمكتبة والده الذي كان محاسبًا ومترجمًا، حيث كانت تلك المكتبة البوابة الأولى لحبه للأدب. بدأ حياته الصحفية محررًا بجريدة الجمهورية، ليشق بعدها طريقه في العمل الثقافي والإعلامي محليًا وعربيًا، وقد أثرت أعماله الأدبية في الحركة الأدبية العربية، ودرست في جامعات عالمية، منها السوربون ولبنان والجزائر، لتؤكد عالميته وعمق تجربته الروائية.
كانت الناشرة فدوى البستاني مؤمنة بقيمته الأدبية، فنشرت أعماله التي بلغت (13) كتابًا تناولت أدبه وتاريخه الفكري.
رحل محمد جبريل بجسده، لكنه باقٍ في ذاكرة الأدب العربي بأعماله الخالدة التي تحاكي الزمان والمكان.
محمد جبريل، بما قدمه من إسهامات أدبية استثنائية، يعد من أبرز رواد السرد الأدبي في مصر والعالم العربي. يمكن تقسيم مسيرته الأدبية إلى مراحل متباينة من حيث الموضوعات والأساليب الفنية:
البدايات الأدبية: ظهرت مجموعته القصصية الأولى تلك اللحظة عام 1970م، حيث عكست تجارب إنسانية عميقة وصورًا نابضة عن الحياة الاجتماعية بمزيج من التأمل والدراما الحياتية. أتت بعد ذلك مجموعته انعكاسات الأيام العصيبة التي تميزت برصد أزمات الواقع المعيشي المصري وتحليل تداعياته النفسية، وقد لاقت اهتمامًا عالميًا بترجمة بعض قصصها إلى الفرنسية.
الرواية والتاريخ: تجلت عبقرية جبريل في توظيف التاريخ في أعماله الروائية. روايته إمام آخر الزمان (1984م) قدمت صورة فلسفية متأملة حول الصراع بين الخير والشر، وكانت بمثابة نقد فكري عميق للحياة السياسية والاجتماعية. أما من أوراق أبي الطيب المتنبي، فقد استطاع فيها أن يجسد شخصية المتنبي بأسلوب سردي فريد يعكس معاناة الشعراء والمفكرين في وجه السلطة والمجتمع.
رباعية بحري: تعد رباعيته الشهيرة (أبو العباس، ياقوت العرش، البوصيري، علي تمراز) من العلامات البارزة في الأدب السكندري والعربي عمومًا. رسم فيها صورة متكاملة للإسكندرية، تلك المدينة العريقة بتنوعها الثقافي ومآسيها وانتصاراتها. يمكن اعتبار الرباعية ملحمة سردية وثائقية تكشف عن التغيرات الاجتماعية والسياسية للمدينة.
الأسطورة والرمزية: في أعمال مثل قاضي البهار ينزل البحر (1989م) وغواية الإسكندر (2005م)، قدم جبريل سردًا أسطوريًا يمزج بين التاريخ والخيال، ما أضفى على رواياته بعدًا رمزيًا يعكس فهمًا فلسفيًا عميقًا للصراع البشري.
الأدب الواقعي الاجتماعي: أبدع جبريل في تصوير الحياة الاجتماعية البسيطة بأسلوب واقعي يتسم بالدفء والصدق. روايات مثل كوب شاي بالحليب والمينا الشرقية تناولت تفاصيل الحياة اليومية وصراع الإنسان مع قسوة الزمن والأحداث.
تأثيره الأدبي: لقد ألهمت أعمال محمد جبريل الأجيال الجديدة من الكتاب، واحتلت نصوصه مكانة رفيعة في الدراسات الأدبية، سواء في الجامعات العربية أو الغربية. كما تميز أسلوبه بعمق فلسفي وسلاسة سردية تجعل من القارئ شريكًا في التأمل والبحث عن معاني الحياة.
رباعية بحري: ملحمة سردية للإسكندرية
تُعد رباعية بحري لمحمد جبريل (أبو العباس، ياقوت العرش، البوصيري، علي تمراز) واحدة من أبرز إنجازاته الأدبية التي أرخت للإسكندرية بأسلوب سردي مُبدع ومُتفرّد. استطاع جبريل في هذه الرباعية أن يحول المدينة إلى شخصية رئيسية نابضة بالحياة، تتشابك تفاصيلها مع أقدار شخصيات الرواية، مما جعلها شهادة أدبية وثائقية على تطور المدينة تاريخيًا واجتماعيًا.
الجزء الأول: أبو العباس (1997م) يحمل هذا الجزء اسم مسجد أبو العباس المرسي، الذي يُعد رمزًا دينيًا وثقافيًا في الإسكندرية. يرصد جبريل التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها المدينة من خلال شخصيات متنوعة تعيش بالقرب من هذا المعلم التاريخي. يعكس السرد ارتباط الإنسان بالمكان وحبكته حول أحلام الشخصيات وصراعاتهم الوجودية.
الجزء الثاني: ياقوت العرش (1998م) يتناول هذا الجزء الصراع الروحي والفكري من خلال شخصية ياقوت العرش، أحد رموز التصوف. يُبرز جبريل هنا كيف تمازجت الروحانية والتصوف مع الحياة اليومية للإسكندرية، مقدمًا تأملات فلسفية عميقة حول معنى الإيمان والحرية الداخلية.
الجزء الثالث: البوصيري (1998م) يسلط هذا الجزء الضوء على شاعر المديح النبوي الإمام البوصيري، الذي يُنسب إليه أشهر قصائد مدح النبي (البُردة). يتناول جبريل العلاقة بين الشعر والواقع، وكيف يمكن للكلمة أن تُصبح قوة تُغير المصائر. هذا الجزء يُبرز أيضًا تأثير التراث الشعري في تشكيل الهوية الثقافية للمدينة.
الجزء الرابع: علي تمراز (1999م) في ختام الرباعية، يروي جبريل حكاية شخصية علي تمراز، التي تمثل الإنسان العادي المكافح في مواجهة تحديات الحياة. من خلال هذه الشخصية، يعكس جبريل صورة صادقة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الإسكندرية خلال العقود الأخيرة.
السمات الفنية للرباعية: السرد الوثائقي: اعتمد جبريل على أسلوب يجمع بين الخيال والسرد الوثائقي، مما جعل الرباعية مرجعًا أدبيًا وتاريخيا للإسكندرية.
التنوع الزمني: انتقل السرد بين الماضي والحاضر، مما منح الروايات بعدًا زمانيًا ممتدًا.
التأمل الفلسفي: برع جبريل في تقديم تأملات فلسفية عميقة حول الحياة، الإيمان، والصراع الاجتماعي.
التفاعل مع المكان: كانت الإسكندرية ليست مجرد خلفية، بل شخصية مركزية تُمثل الهوية الثقافية والروح الحية للأحداث.
أثر الرباعية: اعتُبرت الرباعية تحفة أدبية وثّقت ذاكرة المدينة وسردت تحولاتها بأسلوب أدبي راقٍ. نالت اهتمام النقاد ودرُست في الجامعات العربية والغربية. لا تزال أعمال جبريل في هذه السلسلة تلهم القراء لفهم العلاقة بين الإنسان والمكان في سياق ثقافي واجتماعي غني.

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *