#ثقافة وفن

أميمة كامل…رائدة التنوير البيئي

سامي المرسي كيوان

أميمة كامل وأثرها في تأسيس الإعلام العلمي والبيئي بمصر. . لم تكن أميمة كامل مجرد صوت عابر في أثير الإذاعة المصرية أو وجهًا تقليديًا يظهر على شاشة التليفزيون، بل كانت بوابة عبور للعلم والمعرفة من أروقة الجامعات والمراكز البحثية إلى بيوت الناس البسطاء. نقلت الأفكار المعقدة بلغة بسيطة، وجعلت من العلم رفيقًا يوميًا للمواطن العادي، والأهم من ذلك، أنها وضعت البيئة لأول مرة على خارطة الإعلام المصري، لتصبح بذلك صوتًا سابقًا لعصره، ومؤسسةً حقيقية لمدرسة الإعلام العلمي في العالم العربي.

من “العلم والحياة” إلى “عالم واحد” .. في زمن كانت فيه البرامج العلمية تُصنّف في ذيل اهتمامات الجمهور والإعلام، خرجت أميمة كامل لتثبت أن العِلم ليس حكرًا على النخبة، بل هو للجميع. أطلقت عبر إذاعة البرنامج العام باقة من البرامج الرائدة مثل “العلم والحياة”، و”علماء في دائرة الضوء”، و”الموسوعة العلمية”، و”نافذة على المعرفة”، وكلها كانت تصب في هدف واحد: تحويل العلم من مادة جامدة إلى تجربة يومية حية.

أميمة لم تكن مذيعة بالمعنى التقليدي، بل كانت مفكرة، مدربة، مدرسة في الأداء والعرض والإقناع. وبجهدها، أسست أول إدارة للبرامج العلمية في إذاعة البرنامج العام، قبل أن تتولى رئاسة الشبكة الثقافية بالإذاعة المصرية، فتضيف لمستها الرصينة والواعية على المشهد الثقافي برمّته.

وكان ذروة عطاءها حين أدركت أن الإعلام يجب أن يواكب التغيرات العالمية المتسارعة في الوعي البيئي. لم تنتظر أن يتشكل اهتمام جماهيري بقضايا البيئة، بل كانت هي من صنعت هذا الوعي. فكانت أول من قدم برنامجًا عن البيئة في التليفزيون المصري، بعنوان “إنه عالم واحد”، لتربط من خلاله بين سلوك الفرد البسيط ومصير الكوكب بأسره. حلقة عن “طبقة الأوزون” حازت بها على جائزة الأمم المتحدة، لأنها شرحت للجمهور معنى ما يحدث فوق رؤوسهم من دون أن يشعروا، فجعلتهم يشعرون، ويفهمون، ويهتمون.

استراتيجيات التبسيط ورسائل التنوير : ما الذي جعل أميمة كامل حالة فريدة؟ إنها القدرة النادرة على الجمع بين المعلومة الدقيقة واللغة السلسة. في كل برنامج قدمته، كانت تعتمد على استراتيجية “القصّة العلمية” التي تبدأ بحكاية إنسانية ثم تفتح باب المعرفة خلفها. كانت تتجنب الجفاف، ولا تقع في فخ التهوين، تحترم عقل المستمع وتدرك محدودية معرفته.

قدّمت العلم لا كترف ثقافي بل كوسيلة للبقاء، وأدركت أن الوعي البيئي والصحي ليس رفاهية، بل ضرورة للبقاء في عالم يضيق فيه الخناق على الموارد والحياة. دمجت المفاهيم البيئية بالوجدان الإنساني، فنقلت الحديث من مجرد أرقام وتقارير إلى قضية ضمير ومسؤولية.

وكان من أعظم ما ميّزها أنها سبقت وقتها، فقد تنبأت بقضايا الاحتباس الحراري والتغير المناخي والطب الوقائي، في حين كانت هذه المواضيع بالكاد تُطرح عالميًا. استخدمت منبرها الإعلامي لخلق جيل جديد من المستمعين الذين يفكرون ويتساءلون، ويخافون على بيئتهم، تمامًا كما يخافون على أرزاقهم وأجسادهم.

إعادة تعريف دور الإعلام في حياة الناس : ما أرادت أميمة كامل تحقيقه لم يكن مجرد برامج ناجحة أو جوائز مشرفة، بل إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والعلم، بين المشاهد وشاشة التليفزيون. أرادت أن يصبح الإعلام جسرًا لا جدارًا، أن يقرّب العلم لا أن يُخيف منه، وأن يشعر المواطن أن العالم من حوله مفهوم، وأنه قادر على اتخاذ قرارات ذكية في حياته اليومية، من اختيار نوع الطعام إلى طريقة التخلص من القمامة.

وكان هدفها الأبعد هو بناء وعي وطني علمي، يتجاوز الأمية العلمية، ويؤسس لثقافة قادرة على مواجهة تحديات العصر، وعلى رأسها البيئة والصحة. لم تكن تنتظر اعترافًا دوليًا، لكنها حصلت عليه: جائزة الدولة في تبسيط العلوم، جائزة “عالم الشهرة” الأمريكية، درع منظمة الصحة العالمية، وجائزة الأمم المتحدة للبيئة. لكنها كانت تعلم أن الجائزة الحقيقية هي أن يصبح لطفل في قرية نائية حلم بأن يكون عالمًا.

صوتٌ علميّ في زحام الترفيه :وسط ضجيج برامج الترفيه والمصارعة الكلامية، كانت أميمة كامل تغرّد منفردة في فضاء العقل. لم تنجر إلى الإثارة الرخيصة، ولم تساوم على المعلومة من أجل المشاهدة. كانت مخلصة للفكرة، للرسالة، للهدف الأسمى الذي آمنت به: أن المعرفة حق للجميع، وأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل يحتاج إلى فهم ما حوله، وإدراك مكانه في الكون.

إن ما تركته أميمة كامل ليس مجرد أرشيف برامج إذاعية أو تلفزيونية، بل مشروع تنويري شامل، وسيرة إعلامية ناصعة تنتمي إلى طليعة المثقفين الذين لم يركنوا إلى الشهرة، بل جعلوا من الإعلام منبرًا للوعي والنهضة.

واليوم، حين نعود إلى مسيرتها، لا نفعل ذلك لمجرد التوثيق، بل لكي نتعلّم أن الإعلام يمكن أن يكون أداة للارتقاء لا الهبوط، وأن الصوت الصادق، مهما علا الصخب، يظل مسموعًا، ومؤثرًا، وخالدًا.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *