#ثقافة وفن

عواطف عبد الرحمن ..رائدة الوعي الإعلامي

بقلم: سامي المرسي كيوان

في قرية الزرابي الهادئة، التابعة لمركز أبو تيج بمحافظة أسيوط، ولدت في عام 1939 م شمس لا تعرف الأفول، اسمها عواطف عبد الرحمن. كانت ابنة لعمدة القرية، ذلك الموقع الاجتماعي الذي كان كفيلًا بفتح الأبواب أمام حياة مستقرة تقليدية. لكنها، ومنذ نعومة أظافرها، اختارت أن تخلع عنها جلابيب الرتابة، وأن تلبس ثوب التحدي، وتحمل في قلبها رسالة نحو التغيير.

وفي طفولتها الريفية، بزغ نجم التفوق مبكرًا، فحصدت المركز الأول على مستوى الجمهورية في الشهادة الابتدائية، ثم الإعدادية بأسيوط. وكان الانتقال إلى القاهرة محطة فارقة، حينما فرضت الظروف على أسرة “عواطف” أن تغامر بابنتها لتكمل تعليمها الثانوي في العاصمة، فكانت المفاجأة: المركز الأول على مستوى القاهرة. لم يكن ذلك التقدم مجرد أرقام في كشوف التعليم، بل كان إعلانًا مبكرًا لميلاد صوت نسوي استثنائي سيقود الإعلام المصري إلى أفقٍ جديد.

الجامعة… حيث تلاقت الموهبة مع المنهج : دخلت “عواطف عبد الرحمن” كلية الآداب بجامعة القاهرة، قسم الصحافة، في زمن كان عدد الفتيات فيه يعدّ على أصابع اليد. لكنها لم تكتفِ بالحضور، بل أرادت أن تضع بصمتها مبكرًا. تفوقت في دراستها، وتخرجت عام 1960 بتقديرٍ متميز، فاختارها الأستاذ خليل صابات، أحد أعلام الصحافة، لترسّخ أقدامها في بلاط صاحبة الجلالة. وكان باب الأهرام هو البداية، حيث التحقت بالقسم السياسي ثم بمجلة “السياسة الدولية”، وتألقت كنجمة واعدة، قبل أن تُعين محررة في “الأهرام الاقتصادي”.

ولم تكن الصحافة لها مجرد مهنة، بل كانت ساحة نضال حقيقية، فقد أجرت أكثر من مائة وخمسين حوارًا مع سفراء دول العالم الثالث، لتصبح الجسر الذي عبرت من خلاله قضاياهم إلى القارئ العربي، بأمانة وصدق وتحليل واعٍ.

ماجستير الثورة… ودكتوراه الإعلام : الصحفية المجتهدة لم تكتفِ بنجاحها الميداني، بل قررت أن تدخل محراب البحث العلمي، فجاءت رسالتها للماجستير عن صحافة الثورة الجزائرية عام 1968م، في وقت كانت الجزائر فيه رمزًا للتحرر ومصدر إلهام لحركات الاستقلال. ثم أكملت مشوارها العلمي بالدكتوراه في الإعلام عام 1975م، في رحلة علمية نادرة جمعت بين الممارسة الأكاديمية والتطبيق الصحفي.

وبين دفاتر الجامعة وساحات التحرير، كانت الدكتورة عواطف تبني جيلًا بعد جيل، وترتقي بمستوى الوعي الإعلامي، وتكرّس مبادئ المهنية، فتدرجت في كلية الإعلام بجامعة القاهرة حتى صارت رئيسة لقسم الصحافة، ومؤسسة لقسم الإعلام بجامعة أسيوط، لتكون واحدة من قلائل النساء اللواتي صنعن التاريخ الأكاديمي والإعلامي معًا.

المرأة… القضية المركزية في مسيرتها : ولأنها أنثى ولدت في بيئة محافظة، وعرفت مبكرًا مرارة التهميش، فقد اتخذت من قضايا المرأة همًّا شخصيًا ومشروعًا وطنيًا. ترأست مركز بحوث المرأة والإعلام، وحررت مجلة “الدوار” التابعة لليونسكو، فأنصتت إلى هموم النساء، وعبّرت عن آمالهن بلغة راقية ومواقف صلبة. لم تكن يومًا حنجرة تصرخ، بل كانت عقلًا يفكر، ويحاور، ويقترح.

وقد اختيرت ممثلة لمصر في أكثر من 150 مؤتمرً دولي، كما كانت المتحدث الرسمي باسم أفريقيا ودول الشرق الأوسط في الإعلام، وعضوًا بارزًا في تحرير جريدة “الجازيت” الهولندية، وسافرت إلى أكثر من 91 دولة، تحمل صوت المرأة العربية، ومطالب الإعلاميين الجادين، لتكون “صاحبة رسالة  الحقيقة” في عالم تضطرب فيه الأصوات.

صناعة الذات في مواجهة السقف الزجاجي : ما يميز تجربة الدكتورة عواطف عبد الرحمن ليس فقط أنها صحفية وأكاديمية، بل أنها نموذج لصناعة الذات ضد القيود الاجتماعية. في مجتمع يُحدّد للمرأة دورًا هامشيًا، كانت عواطف تخرق ذلك السقف الزجاجي، لا بالصوت العالي أو الشعارات الثورية، بل بالعلم والممارسة والإبداع.

وقد اختارت أن تبدأ من الريف وتعود إليه، فأسست قسم الإعلام في جامعة أسيوط، مؤكدة أن المعرفة لا تليق بها المركزية القاهرية وحدها، بل يجب أن تصل إلى أطراف الوطن.

الهدف: بناء إعلام يليق بالإنسان : من خلال رحلتها، كانت تسعى لبناء إعلام يحترم العقل والكرامة. إعلام لا يخضع لإغراءات السوق أو دكتاتورية السلطة، بل يحترم القارئ والمواطن. لقد ربت أجيالًا من الصحفيين، وكانت تؤمن بأن الكلمة مسؤولة، وأن الإعلامي يجب أن يكون مثقفًا قبل أن يكون ناقلًا للخبر.

قدوة من زمن نادر : إن قصة الدكتورة عواطف عبد الرحمن ليست مجرد سيرة ذاتية لامرأة ناجحة، بل هي تجسيد لحلم عربي في التنوير، يحمل عبق الريف المصري، وصلابة الجنوب، وبصيرة المثقفين.

في زمن يغلب عليه الضجيج الإعلامي والمحتوى الفارغ، تبدو هذه السيدة الجليلة بمثابة البوصلة. فلا عجب أن تظل سيرتها تلهم الفتيات، وتؤكد أن الريادة ليست حكرًا على أحد، وأن التفوق ممكن رغم التحديات.

لقد كتبت اسمها بعرقها، وسكنت قلوب من درّستهم، وأحيت الفكر في قاعات الجامعات، وزرعت بذور التمرد الإيجابي في نفوس الصحفيين. إنها رائدة، ومربية، ومفكرة… والأهم: امرأة لم تنحنِ.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *