#مقالات رأى

الريادة والقوة الناعمة

 

بقلم محمد عبدالله

لم تكن مصر أبدًا ذلك الوطن الذي يمتلك موقعًا جغرافيًا جعل منها مفتاح الشرق والغرب فقط، ولكنها تلك البقعة التي صدرت للعالم، الحضارة والعلوم دون ضجيج.

كانت قوة مصر الناعمة وسبب ريادتها في حضارتها التي امتدت لأكثر من سبعة آلاف عام، نشرت خلالها العلوم والأخلاق معًا، وصنعت مجدًا ثقافيًا ومعرفيًا لا يزال العالم يكتشف كنوزه حتى اليوم، ويقف مشدوها أمام ذلك الإعجاز الحضاري الذي عجز بكل ما أوتي من علوم حديثة وتقنيات عن فك رموزه أو تقليد بعضه.

مصر كانت رائدة، فهل تنازلت أو غاب عنها كيانها وكينونتها الريادية؟

بالطبع لا.. فالدول ذات الحضارة تخلق في شعوبها مع التراكم، ما يمكن أن نطلق عليه “جين التحضر” وهو يعني أن هذا الشعب سيظل يحركه “جين” الحضارة مهما مر به من أزمات ومهما جارت عليه الأيام ستجده شعبًا حضاريًا ورائدًا بالفطرة.

يقول البعض أن المصري يبدع ويكون نموذجًا للتحضر إذا سافر خارج بلاده، وهذا قول مردود عليه بأن هذا الإنسان إذا افتقد جين الحضارة فلن تفلح معه محاولات إجباره على التحضر.

ولا أبالغ إذا قلت إن فرض القانون مع هؤلاء الذين يفتقدون الجين الحضاري لن يجدي نفعًا، وهناك شواهد كثيرة لتصرفات غير المصريين في الخارج، فالمواقف الإنسانية والأخلاقية تكون في صالح المصريين دائمًا.

ولأن الدول مثل الإنسان، تمر بمراحل الفتوة ثم تكهل وتشيب وتعجز، فهذا يحدث مع الجميع إلا مصر، فهي دائمًا ما يصرخ في وجدان شعبها على مر التاريخ جين الحضارة والتحضر، فيحولها إلى دولة فتية عتية عصية على القهر أو التقزم.

مصر التي ظن العالم أن التتار سيجتاحونها في ساعات، انكسرت شوكتهم على أرضها.. “الفرنجة” الذين جيشوا الجيوش وتمترسوا خلف حصونهم أذلهم صمود مصر.

مصر كانت رائدة، ولم تفقد مكانتها أبدًا رغم ما مرت به من كبوات، فالمال والإمكانات الاقتصادية لا تصنع الريادة، فالقواعد الهشة لا تصلح لبناء الصروح، وريادة مصر كانت دائمًا في قوتها الناعمة، فهي لم تجتاح الدول لتنشر فيها الحضارة والثقافة، ولكن ثقافتها وحضارتها كانت مثل النيل الذي يسري في حنو وسكينة لينثر النماء، وينشر الخير أينما حل واستقر.

وعلى مدار تاريخنا، كانت قوتنا الناعمة في ثقافتنا التي استطاعت تمصير المحتل الفارسي واليوناني والروماني والمملوكي والفرنسي والإنجليزي ..كلهم رحلوا وهم مصريو الهوى.

ولعقود طويلة، كانت مصر قبلة العرب لنهل الثقافة والمعرفة، وساهمت الخبرات المصرية في بناء قواعد الثقافة والإعلام في عدد كبير من الدول الشقيقة.. ومهما يكن من تغير للأحوال، فهذا لا يعني أن مصر قد فقدت قيادتها أو ريادتها، فالمتغيرات العالمية والضغوط الاقتصادية قد تضطر متخذ القرار لتبديل الأولويات طبقًا لما يعرفه وليس طبقًا لما يراه المتابع أو المشاهد.

ولكن يجب علينا أن نتمسك بالريادة الحضارية التي تتمثل في الثقافة والإعلام، وهي لا تحتاج للبناء من جديد، فصناعة الثقافة من أهم المنتجات العالمية والأكثر تأثيرًا، ولننظر كم تنفق الولايات المتحدة على الإعلام وعلى هوليوود لنشر النموذج الأمريكي لذلك “الكاوبوي” الذي يمثل قوة وفتوة أمريكا، ناهيك عن النموذج الاستهلاكي وقيمه التي ترسخها سلاسل الوجبات السريعة.

مصر صاحبة الجين الحضاري النادر لن تتراجع ولن تسلم الراية لغيرها، ولكنها تستطيع استرداد ريادتها الحضارية في “نوبة” صحيان بهؤلاء الذين قهروا التتار والمغول والمجوس والصهاينة.

وكما قال الخال الأبنودي

ومصر عارفة وشايفة وبتصبر

لكنها في خطفة زمن تعبر

وتسترد الاسم والعناوين

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *