#مقالات رأى

الإعلام الغربي وسقوط المهنية

د. إلهام يونس

لا شك في أن التغطية الإعلامية للحرب على غزة خلقت جدلاً واسعًا بسبب كثرة المعلومات والأخبار المزيفة والقصص الإخبارية المضللة التي انتشرت حول العالم، سواء في وسائل الإعلام التقليدية أو الحديثة، فضلًا عن الدعاية الإسرائيلية التي روجت للعديد من القصص الزائفة وأسهمت في نشرها عبر وسائل الإعلام خاصة الغربية منها دون تحقق من مصدر المعلومات أو مصداقيتها.

وبعد شهور من متابعة التغطيات الإعلامية المتنوعة أثارني شغف البحث العلمي في إجراء تحليل مضمون لهذه التغطيات المتعددة وتطبيق أسلوب المقارنة بين وسائل الإعلام المتعددة الانتماءات الغربية والعربية ومنهم هؤلاء المتشدقون بالمهنية ومبادئها الإعلامية السامية للخروج بنتائج علمية بالنسب والأرقام. وكما هو معتاد في هذا النوع من البحوث الإعلامية تم تحديد أيام محددة من فترة الحرب ورصد وتحليل النشرات الإخبارية التليفزيونية وما يتبعها من تحليل لعدد من القنوات في نفس التوقيت والمدة الزمنية حتى نخرج بنتائج موضوعية وواضحة وبعيدة عن شبهة التحيز القومي العروبي.

وبعد تفريغ الكلمات المستخدمة في صياغة نفس الأخبار ومقارنتها ببعض تبين الآتي:

أولا: بالنسبة للقنوات الغربية: تعمدت بعضها مثل (إيه بي سي نيوز وسكاي نيوز وإم إس إن بي سي…) استعمال الأفعال المبنية للمجهول حين الحديث عن المجازر التي تحصل في غزة وكل ما أحدثته من خراب ودمار بحيث لا تشير إلى الجانب الإسرائيلي بأنه هو المسؤول عن كل هذا، بل تكتفى بالإشارة لتعرض مبان ومنشآت للخراب والبنية التحتية للدمار وفقط. وبالنسبة لشبكة بي بي سي رصدت الدراسة اعتذار القناة مرتين خلال يوم واحد كل مرة نصف دقيقة تقريبًا عما سمته القناة النقل المضلل بأن المتظاهرين المتضامنين مع فلسطين في بريطانيا أيدوا حماس، بالإضافة إلى إشارتها لجموع المتظاهرين الذين طلوا جدران المحطة البريطانية باللون الاحمر بأنهم من مؤيدي حماس.

والأمر لم يقتصر على هيئة الإذاعة البريطانية، وإنما بينت الدراسة أمثلة كثيرة على الانحياز تجاه إسرائيل فجاء تقرير سكاي نيوز عن القصف الإسرائيلي الذى طال مدرسة تتبع الأونروا حيث اكتفت بالإشارة لمقتل 20 شخصًا متفادية الحديث عن كيف قتلوا ولا من قتلهم، وكل ذلك لتجنب الإشارة للمسئولية الإسرائيلية رغم حديث عشرات المصادر الدولية عن وقوف إسرائيل خلف ما حدث ووثقوا رواياتهم بالصور ومقاطع الفيديو.

ثانيًا: بالنسبة للقنوات الأجنبية باللغة العربية ذات الانتماء الغربي مثل سي إن إن عربية أو بي بي سي عربية فلم تختلف كثيرًا وسارتا على نفس الخط التحريري للنسخ الغربية فاعتمدتا على استخدام مفردات تخفف من شدة الحدث، فمثلاً وصفتا مجزرة جباليا التي ارتكبتها الطارات الإسرائيلية بأنها انفجار ضخم هز منطقة جباليا، بينما كان واضحا للجميع أنه قصف جوي شنته القوات الإسرائيلية على الشعب الأعزل وهناك فرق كبير جدا في اللغة العربية بين الانفجار والقصف.

وتطرق البحث أيضًا لمتابعة ما يحدث على المستوى الإداري في هذه القنوات حيث اتضحت مخالفات مهنية من نوع آخر حيث قررت شبكة إم إس إن بي سي الأمريكية إيقاف ثلاثة من مقدمي البرامج الرئيسية فيها لأنهم قدموا روايات مغايرة عن تلك التي تناقلتها الشبكة المنحازة لإسرائيل، وبالمثل قررت صحيفة الجارديان البريطانية إقالة رسام الكاريكاتور المعروف ستيف بيل الذى يعد أحد رموزها وعمل بها لأكثر من 40 سنة، وذلك عقب رسمه (كاريكاتور) لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو يحمل مشرطًا في يده ويطلب من سكان القطاع الخروج لالتهامهم فيما اعتبرته السلطات الإسرائيلية معاداة للسامية، وكذلك في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية حيث تقدم عدد من الصحفيين الفلسطينيين باستقالاتهم نتيجة لعدم عرض القناة للتقارير التي ينقلونها من الضفة الغربية، فضلا عن تبنى القناة الرواية الإسرائيلية على طول الخط مقابل إهمال واضح للرواية أو المصادر الفلسطينية في نقل الأحداث.

وأشارت الدراسة إلى محاولات حظر منشورات المؤيدين للقضية الفلسطينية على المنصة الأشهر (الفيس بوك) من خلال تعديل خوارزميات هذه المنصة الأمر الذي يعد ليس فقط انحيازا كاملا للجانب الإسرائيلي، بل انتهاك صارخ لحقوق الإنسان ومخالفة واضحة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

فقد أكدت نتائج الدراسة حقيقةً أن الإعلام الغربي يمتلك كل المقومات التي تجعله قويا وقادرا على التأثير في الرأي العام العالمي وقلب الموازين، فاستطاع أن يصور أن ما تفعله إسرائيل هو رد فعل وليس ظلمًا بيًنا للشعب الفلسطيني الأعزل، وأن الطرف الظالم على أنهُ هو الضحية، من المحبط حقاً أن تنهار المهنية في أعتى قلاعها وتندر التقارير غير المتحيزة عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، ففي صراع معقد وعميق الجذور مثل هذا، لا يمكن المطالبة بالمهنية في العمل الإعلامي أو المبالغة في تطبيق الصحافة العادلة والموضوعية، ولكن الحقيقة التي تفرض نفسها رغم اعتراض الأكاديميين والباحثين أن الإعلام إحدى أدوات تحقيق الأهداف السياسية رغم اليقين باستخدام العديد من آليات التزييف (الزمنى والمكاني والاجتزاء من السياق) لتقديم رواية أحادية الجانب.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *